يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

تعقيدات المرحلة: ترمب أمن المنطقة أم إسرائيل؟

هناك تغير واضح المعالم في العلاقة بين أميركا ترمب والمنطقة، بدأ بنفاد الصبر من السلوك الإيراني في المنطقة والتحول إلى أهم دولة راعية للإرهاب، سواء إرهاب الميليشيات الشيعية التي تقاتل في سوريا والعراق واليمن، أو من خلال عرقلة السلم المجتمعي في بلدان تحاول الخروج من تبعات الفرز الإقليمي بين إيران وخصومها، كما هو الحال في لبنان بشكل واضح وفي مناطق أخرى بشكل موارب.
الإشكالية ليست في دوافع ترمب الجديدة، لكن في قراءتها على أنها جزء من خطة أميركية لإنقاذ المنطقة من براثن التمدد الإيراني، وهذا جزء من الصورة يجب ألا ينسينا الصورة الأكبر، وهي أن جزءًا من التغير في السلوك الأميركي هو لصالح الاضطلاع بحماية حلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم إسرائيل التي تعد أحد أهم المرتكزات للسياسة الخارجية، لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وتحول قضية الإرهاب من نزاعات مسلحة إلى عنف عابر للحدود.
السنوات العجاف الأوبامية لم تقتصر على دول الاعتدال في المنطقة، بل شملت أيضًا بشكل أساسي إسرائيل، على الرغم من تصريحات الرئيس الأميركي السابق المتوددة لها. فالتدخل الروسي واسع النطاق في سوريا والذي أطال أمد اشتعال المنطقة بالعنف وتورط جماعات وميليشيات في المستنقع السوري، ليس فقط تنظيمات شهيرة مثل «القاعدة» و«داعش»، بل تنظيمات جزئية صغيرة وميليشيات شيعية في المقابل استعانت بخبراء من «حزب الله» وإيران، ألقت بظلال كثيفة على سؤال الأمن لمنطقة تتحول فيها النزاعات الأهلية أو إرهاب الدولة، كما حدث مع نظام الأسد تجاه الشعب السوري، إلى منطقة حرب دولية تجر إليها كل الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة.
المقلق هو أن أي جنوح أميركي تجاه تدعيم سياسات بناء المستوطنات، أو نقل السفارة الأميركية للقدس، سيزيد من تعقيد الوضع في المنطقة، وربما ساهم في إعطاء شرعية ومبرر لإرهاب دول ما يسمى بالمقاومة، تحت شعار نصرة القضية الفلسطينية، حتى وإن أدرك الجميع أنه شعار استقطابي سياسي لا يقدم للقضية الفلسطينية أكثر من مزيد من التعقيد. كما أن مسألة تردد الحكومة الإسرائيلية الواضح في ترجيح كفة الأزمة السورية، إما بالتضحية بالأسد في مقابل إعادة ترتيب الوضع السياسي، أو الإبقاء عليه بحجة الخوف من أن يكون البديل له هو حكومة متطرفة، عطفًا على الأطراف الفاعلة والمنتصرة على الأرض.
أعتقد أن مرحلة التلويح بالردع تجاه إيران لن تطول، في حالة بقي السلوك الإيراني على الحال ذاتها من الممانعة وإظهار القوة ولغة التحدي، ومن المرجح أن تبدأ الولايات المتحدة في تقليم أظافر نظام طهران عبر الأذرع والأطراف، بحسب الأولوية والقدرة على إحراز تقدم ما. ويترجح اليمن في بداية الأزمات التي تضطلع إيران فيها بدور كبير، لا سيما بعد عمليات استهداف البوارج ونقل المعركة إلى البحر، وهو مؤشر خطير.
بقاء الأسد على السلطة لن يكون خيارًا أميركيًا، إذا ما علمنا أنه نوع من الإذعان للتدخل الروسي السافر في المنطقة، والذي كان ينظر إليه على أنه عودة القطبين في حقبة أوباما، إلا أن اللغة الحذرة التي تستخدمها روسيا بوتين مع إدارة ترمب، توحي برغبة في تفاهمات سياسية ولو أدى ذلك إلى تغير المعادلة على الأرض فيما يخص بقاء الأسد أو تدخل إيران وأذرعها العسكرية، وعلى رأسها «حزب الله» في لبنان، الذي ينتظر أيضًا تغييرًا في معادلة «التعطيل» الذي تمارسه إيران عبره.
أعتقد أن بداية الأزمة الحقيقية بين أميركا وطهران كان لها مبرر سياسي، لا سيما بعد التجربة الصاروخية الإيرانية الأخيرة في 29 يناير (كانون الثاني) الماضي، والتي شملت بحسب التقارير الأميركية والألمانية صاروخًا باليستيًا ذا قدرة نووية، أو صاروخًا انسيابيًا للهجمات البرية، والذي وصفته إدارة ترمب بقولها: «خطوة مزعزعة للاستقرار». وبحسب ورقة بحثية، قدمها فرزين نديمي، المحلل المتخصص في الشؤون الأمنية والدفاعية المتعلقة بإيران لمعهد «واشنطن»، فإن هناك قلقًا كبيرًا يعيشه المجتمع الدولي من إمكانية استخدام إيران للدراية التي تكتسبها من برنامج إطلاق فضائي لتطوير صواريخ باليستية أبعد مدى وأكثر دقة، قادرة على بلوغ أهداف خارج نطاق منطقة الشرق الأوسط. كما يتحدث عن اعتماد إيران الظاهر على التصنيع الروسي، أو الصيني، أو الكوري الشمالي، والتصاميم الأقدم، مشيرًا إلى البطء في تحقيق مثل هذه القدرات في المستقبل.
ليس هناك تشاؤم أو تفاؤل في عالم السياسة الخاضع دومًا إلى المتغيرات، لكن من المرجح أن ترمب سيضطلع بمهمة صعبة جدًا وشاقة في ظل تعقيد حالة المنطقة وخوضها أزمة سلوك سياسي من قبل إيران مسنودة بروسيا، وبتدخلات سافرة في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان، كجزء من بقايا بعثرة مرحلة الربيع العربي. هذا التدخل الإيراني جاء في ظل ارتباك اللحظة ما بعد الربيع وفشل القوى الدولية بما فيها أميركا أوباما نحو إعادة بناء التوازنات والتحالفات الإقليمية، بسبب عدد من التطورات المتسارعة في المنطقة. وأعتقد من هنا يمكن أن نفكر ولو لوهلة، ماذا لو لم تقم عاصفة الحزم بلفت الانتباه إلى هذه التداعيات الخطيرة في التغول والقفز على سيادة الدول ومحاولة تثوير البلدان التي خرجت منهكة من تجربة الربيع العربي؟ الإجابة رغم كل ما حملته الحرب من إشكاليات: كنا أمام كارثة حقيقية ستجثم على صدور دول الخليج الطامحة للاستقرار.
المملكة اليوم تملك أوراقًا تفاوضية عالية القيمة، ويكفي أن إعادة الاستقرار لمصر والمحافظة على استقرار الحالة البحرينية والقطيعة التشريعية والمجتمعية مع الإرهاب، تعزز من قدرة السعودية على طرح أولوية الاستقرار في مقابل نزعات الانفصال التي تقودها إيران في المنطقة، وهي أوراق يجب أن تطرح أمام طاولة ترمب، كجزء من رؤية شمولية للأمن في المنطقة.