د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

ارتداء التقنية... مراحل متقدمة من الاستخدامات الطبية

ارتداء أحدنا لأجهزة التقنية الرقمية كأجهزة ملبوسة (Wearable Devices) تجاوز بكثير مرحلة «المرافقة الدائمة» في الجيب أو الحقيبة أو السيارة أو قرب سرير النوم.
وما كان البعض يراه مجالاً للفكاهة أو الاستغراب حول المراهقين والشباب الذين لا تفارقهم أجهزة الهاتف الجوال أو الشاشات اللوحية، ربما لن يروه كذلك قريبًا، بل ربما سنراه بشيء من الإعجاب أو أشد من ذلك، خصوصًا مع تسارع وتيرة التقدم في مجالات التطبيقات التقنية الرقمية، وما يتبع ذلك التقدم التطبيقي من توسيع في مجالات دواعي ارتداء تلك التقنية، وأشكال ذلك.
ويعتبر «ارتداء التقنية» من المصطلحات الآخذة بالانتشار، وذلك للتعبير عن العلاقة المكانية اللصيقة بين جسم الإنسان، وأنواع شتى من أجهزة التقنية الرقمية والحواسيب التي نستخدمها بشكل واسع، اليوم، في مجالات التواصل والاتصالات وغيره. ولذا نجد أن هناك عدة تسميات تعبِّر عن الموضوع ذاته، مثل الملبوسات التقنية أو التقنية الملبوسة (Wearable Technology) أو الأجهزة الملبوسة أو الملابس الذكية أو الموضات الإلكترونية، وهي جميعها تسميات تشير إلى التقنيات الإلكترونية أو أجهزة الكومبيوتر التي تدمج ضمن عناصر من الملابس والإكسسوارات التي يمكن بسهولة أن يرتديها الإنسان على الجسم، وتعبر عن أجهزة رقمية ذات قدرات أو ذكاء إلكتروني يُمكّنها من إدراك متغيرات حيوية بيولوجية عدة ورصد قيمها ومقاديرها. ويرى المتخصصون في أنواع هذه الأجهزة أن هناك أربع مراحل للالتصاق والقرب المكاني بين جسم الإنسان وأجهزة التقنية. المرحلة الأولى هي «ما قبل الارتداء» Pre Wearable Devices وفيها كان جهاز التليفون أو التلفزيون أو ماكينة تشغيل السينما توجد في مكان ثابت بعيدًا عن الجسم.
ثم انتقلنا إلى عالم ارتداء الأجهزة، وبدأت تلك المرحلة بـ«الارتداء الخارجي غير اللصيق بالجلد» أو الأجهزة المحمولة باليد Hand - Held Technology، وذلك بأن يحمل أحدنا جهاز الهاتف الجوال، أو اللوح الرقمي، وتكون تلك الأجهزة معنا طوال الوقت في الجيب أو الحقيبة أو قرب سرير النوم، ومن خلال ذلك ننجز كثيرًا من الأعمال والتواصل، ونتلقى تسلية الألعاب ومشاهدة البرامج المرئية وغيرها.
ثم بدأت المرحلة الثالثة، وهي مرحلة «الارتداء الخارجي اللصيق بالجلد»، وذلك على هيئة النظارة أو العدسة اللاصقة أو الساعة أو الخاتم أو الأسورة أو السماعات أو الأقراط أو الأنسجة الإلكترونية E - Textiles أو الأقمشة الذكية Smart Fabrics، وهي جميعها عبارة عن تصميمات شتى لجهاز تقنية رقمية.
وبإمكان هذه الأجهزة التقنية التي يمكن ارتداؤها أداء كثير من المهام الحاسوبية التي تؤديها الهواتف الجوالة وأجهزة الكومبيوتر المحمولة، أي أنها تمتلك قدرات الاتصالات، وأيضًا بإمكانها أن تتفوق على هذه الأجهزة المحمولة باليد لتكون أكثر تطورًا في توفير مميزات نتائج الإحساس والمسح الضوئي لإعطاء معلومات ارتجاعية بيولوجية Biofeedback، وتتبع التغيرات الوظيفية الفسيولوجية الحيوية، وهي التي لا تتوفر في الأجهزة النقالة وأجهزة الكومبيوتر المحمول. ولأن هذه الأجهزة التي يتم ارتداؤها تمتلك قدرات الاتصالات، فإن بإمكانها أن تقوم بإرسال تلك المعلومات الفسيولوجية الحيوية والتغيرات في الجسم بشكل مباشر. وأيضًا تمتلك قدرات التخزين المحلي للمعلومات بدرجات يُمكن رفعها أو خفضها، مما يسمح بالوصول إليها عند الحاجة.
والمتوقع تطور ذلك من المرحلة الثالثة وهي «ملامسة الجلد» إلى المرحلة الرابعة، وهي الاستقرار عبر الزراعة في الجسم، إما في منطقة «ما تحت الجلد» أو مناطق أخرى أعمق في داخل الجسم، أسوة ببعض الأجهزة التقنية الطبية التي يتعين قسريًا استخدامها في علاج اضطرابات نبض القلب مثلاً أو مضخات حقن الأنسولين لمرضى السكري. وإضافة إلى الاستخدامات الطبية الحالية، كوسائل علاجية، للأجهزة الرقمية المزروعة في الجسم، فإنه من الرائع تطور استخدامات البشر لأجهزة التقنية الرقمية بطريقة اختيارية، ويحاول الباحثون في المجالات الطبية وغير الطبية الاستفادة من هذه التطورات في خدمة صحة الإنسان والكشف المبكر عن أي اضطرابات مرضية قد تعتري جسمه قبل ظهور أعراض تلك الاضطرابات المرضية بشكل واضح صحيًا. وضمن عدد 12 ديسمبر (كانون الأول) الماضي من مجلة «بلوس بيولوجي» (PLOS Biology)، نشر الباحثون من كاليفورنيا نتائج دراستهم استخدام أجهزة الاستشعار البيولوجي لتتبع عدد من المتغيرات والأنشطة التي تحصل في الجسم، مثل الوزن، ومعدل نبض القلب، ونسبة الأكسجين في الدم، وحرارة الجسم، ومستوى النشاط البدني، وساعات النوم واليقظة، وعدد الخطوات في المشي أو الهرولة، وعدد السعرات الحرارية المحروقة في الجسم، ونسبة تعرض الجسم لأشعة «غاما»، ونسبة تعرض الجسم للأشعة السينية وغيره. وبلغ عدد المتغيرات التي رصدت وتم تحليلها في الدراسة نحو ملياري متغير. وأفاد الدكتور مايكل سنيدار، الباحث الرئيس في الدراسة ورئيس وحدة الجينات في كلية الطب بجامعة ستانفورد بكاليفورنيا، بالقول: «نريد أن ندرس حالة كل إنسان على حدة»، وهو الوصف الذي يُفيد في معرفة ما هو الطبيعي للإنسان وبالتالي ملاحظة أي تغيرات قد تنشأ لديه.
واستخدم الباحثون في دراستهم عددًا من الأجهزة التي تتوفر في الأسواق بغرض الارتداء اللصيق بالجلد، لرصد متغيرات عديدة طوال اليوم، تصل إلى نحو ربع مليون لدى كل شخص يوميًا. وعلق البروفسور إيريك توبول، أستاذ علوم الجينات في معهد سكريبز للبحوث بكاليفورنيا بالقول: «نشعر بالدهشة من كمية المعلومات التي رُصِدت».
ويرى الباحثون أن هذه ربما ستكون مفيدة لتحديد المعدلات الطبيعية لكل إنسان، وهو ما يعتبر خطوة أولية لأي تطور لاحق في التطبيقات الطبية لأجهزة الاستشعار الرقمي، كما سيجعل من السهل الحصول على ملاحظة مبكرة لأي تغيرات مرضية قد تصيبه.
إن مجالات التطور في شأن ارتداء الأجهزة الرقمية لا يُمكن توقع مداها الإيجابي حقيقة، كما لا يُمكن في الوقت الحالي توقع حجم الاستفادات الطبية والصحية والنفسية منها. والمستقبل سيُرينا أشكالاً متنوعة لتلك التطبيقات الصحية للأطفال وكبار السن، ولتحسين التذكر، والوقاية من الأطعمة غير الصحية وضبط وتيرة النوم ومتابعة السكري وحرارة الجسم واضطرابات النبض وغيرها.