فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

أفغانستان أبدية الفوضى واستحالة الاستقرار

ضمن مهمة إنسانية، يدخل السفير الإماراتي مع وفدٍ دبلوماسي إلى دار الضيافة لوالي قندهار، بغية وضع حجر الأساس لدار خليفة بن زايد، والتوقيع على اتفاقية كاردان للمنح الدراسية، فيحدث انفجار مدوٍ غادر يودي بحياة فريق المساعدة الإنسانية. لقد وضع الهجوم المشهد الفوضوي بأفغانستان على المحك، ولئن لم تتبنَ طالبان الهجوم فإنها بالتزامن أعلنت عن مسؤوليتها عن تفجير في هلمند وفي العاصمة كابل، حيث فجر انتحاريان نفسيهما أثناء خروج موظفين من مكاتب البرلمان، في عملية أودت بحياة ثلاثين شخصًا على الأقل.
لا يُستبعد أيضًا حضور تنظيم داعش بهذه العملية بعد انشقاق قادة من طالبان وانضمامهم إليه، فمنذ مارس (آذار) 2015 والتقارير تتحدث عن انتشار قوي للتنظيم وبخاصة في منطقة الحدود، وكان الجنرال جون كامبل، المسؤول الأميركي عن قوات حلف الناتو قد صرح بأن «هناك انحسارًا لطالبان وطلب ولاء لـ(داعش). وينبغي على مسار الأمور أن يشكل مصدر قلق للرئيس الأفغاني أشرف غني ولي شخصيًا».
لنتذكر تقريرين نشرا بهذه الجريدة، أحدهما لحمود رحماني من كابل بعنوان «داعش يتمدد بقوة في أفغانستان على حساب طالبان» في 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2015 تضمن رصد معلومات تؤكد أن «تنظيم داعش يسعى للتوسع على حساب طالبان في مناطق التوتر، خصوصًا بشمال وشمال شرقي البلاد، حيث تعد ولاية فارياب وولاية فراه الواقعتان في شمال شرقي البلاد من الولايات التي يمكن لـ(داعش) الانتشار فيهما بسبب قربهما لدول آسيا الوسطى، ووجود مقاتلين شيشانيين وأوزبك وطاجيك، إضافة إلى مقاتلين من تركستان الشرقية، ضمن تشكيلات (داعش)». والثاني لوليد عبد الرحمن بعنوان «داعش ينشط في أكبر منطقة قبلية على حدود باكستان وأفغانستان» في 8 فبراير (شباط) 2016 وبه يذكر أن «من بين قيادات طالبان الذين أعلنوا الولاء لـ(داعش) «أمراء» كل من مُقاطعة أوركزاي سعيد خان، ومُقاطعة كرم دولت خان، ومُقاطعة خيبر فاتح جل زمان، ومُقاطعة هنجو خالد منصور، ومدينة بشاور المفتي حسن».
أحسب أن هناك حومة من الصراع على مناطق السيطرة من قبل القوتين المتصارعتين الأبرز وهما «طالبان» و«داعش»، وذلك بعد تراجع فاعلية تنظيم القاعدة وانحسار تأثيره. أرقام أميركية تتحدث عن ضمور لافت لـ«القاعدة» مما يجعل المقاتلين هناك ينحصرون بمائة مقاتل فقط! قوة تنظيم داعش أنه ابتلع كوادر وقياديين من طالبان بايعوه منشقين عن الحركة، وهو ما منحها القدرة الفائقة في التمدد على الأرض، وتسهيل دخول الانتحاريين إلى مناطق يفترض أنها آمنة، وتوفير دعم لوجيستي عابر للحدود باعتبار الخبرة السياسية التي تتمتع بها طالبان، والأمر الأهم بالنسبة لـ«داعش» أن المنضوين إلى التنظيم من المنشقين عن الحركة سيوفرون الحاضنة القبلية لهم في أنحاء البلاد باعتبار طالبان «ظاهرة بشتونية» كما هو التعريف الأميركي الشهير.
قد يكون الاضطراب في أفغانستان وما يلتحم بها مع باكستان من أسبابه الفشل الأميركي في تقدير الوضع واستخدام أوباما لأكثر من موقف ورأي واستراتيجية، منذ شعار «الحرب الصحيحة» وإقرار إرسال أربعين ألف مقاتل، إلى استراتيجية أخرى تتعلق بالحوار بين طالبان وباكستان قادها مبعوث أوباما لأفغانستان وباكستان ريتشارد هولبروك في إسلام أباد 2010 ونجح جزئيًا بجمع الطرفين، غير أن اندفاعه هو مع الوزيرة كلينتون لم يكونا كافيين بالنسبة لأوباما، ولم يمهل القدر هولبروك من إتمام الصفقة، إذ سقط بمكتبه في العاشر من ديسمبر (كانون الأول) وانتهت معه خطته الواقعية، «الضغط بالحرب والقوة من أجل إحلال السلام».
هولبروك التقى الملك عبد الله، رحمه الله، عارضًا عليه الاستراتيجية الأميركية تجاه أفغانستان؛ الملك نصحهم بأن تعالج «جذور مشكلة طالبان» أكثر من التركيز على القشور. لكن أوباما في آخر المطاف نفض الأوراق عن مكتبه وقرر الاكتفاء - فقط - بمحاربة الإرهاب في أفغانستان، من دون التفكير في الإعمار والبناء، أو تغيير الأرضية التي تنتعش بها المنظمات الإرهابية وتقتات عليها، لهذا استطاعت دول أخرى مثل الصين أن تنفذ إلى أفغانستان وباكستان عبر بناء الجسور، والقيام بمنشآت رمزية نجحت من خلالها في كسب جولاتٍ على الولايات المتحدة في تلك الأرض. ذلك القلق والارتباك يرويه كتابةً وإعلامًا وشهادةً والي نصر مستشار هولبروك في ذلك الملف المعقد الشائك والممل. كثيرون رأوا أن المأزق الاستراتيجي الأميركي بأفغانستان بدأ منذ أن نجا الملا محمد عمر ومعه أسامة بن لادن من القصف الأميركي في تورا بورا في 2001، وسط تصرفاتٍ مريبة من استخبارات أفغانية وباكستانية أقرب ما تكون إلى الخيانة.
إذا استمر الفشل الأميركي في أفغانستان فإن الحيتان الأخرى قد تبتلع النفوذ الثمين الذي دفعت أميركا لأجله منذ نصف قرن تضحيات مادية وعسكرية، غير أن الوصول إلى حالٍ من الاستقرار أشبه بالمستحيل؛ بسبب تنوّع المشكلات والاضطرابات، وتداخل اللاعبين على الأرض، واستمرار التفريخ النوعي للتنظيمات المستوعبة قبليًا واجتماعيًا. كان من وعود أوباما الانتخابية وأولوياته «إعادة التعافي لأفغانستان»، وعد لم يتحقق منه شيء، بينما مبعوثه هولبروك علّق على الوعد قائلاً: «إننا إذا تمكنا من تحقيق الهدف بتعافي أفغانستان، فإنها ستكون نهاية حروب أميركا بالعالم الإسلامي، أما إذا انتكس الوضع فإنها ستكون بداية حقيقيةً للحروب الأبدية، حروب بلا نهاية».
هكذا تبدو أفغانستان اليوم، مجزرة قندهار ضد بعثة دبلوماسية إماراتية تقوم بعمل إنساني، تبرهن على نهاية آمال الاستقرار في تلك البقعة من العالم، وبداية الحروب العبثية، ورسم مخططات تسيل فيها الدماء.