يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

أزمة سوريا: رهانات التدخل الأميركي

يبدو أن خسائر روسيا في تدخلها في الأزمة السورية لن توقفها عن التوغل في المزيد من دماء الشعب السوري، وصولاً إلى التفاوض المرتقب مع الولايات المتحدة الجديدة، أميركا ترامب. مقتل السفير الروسي لدى تركيا أعقبه تحطم طائرة تابعة لوزارة الدفاع وعلى متنها 92 شخصًا بينهم 83 عسكريًا، حيث اختفت في البحر الأسود على بعد نحو 7 كلم من الشاطئ، عقب إقلاعها مباشرة إلى مطار اللاذقية في سوريا.
الطائرة عدا الكوادر العسكرية المهمة كان على متنها تسعة صحافيين وأوركسترا كانت في طريقها للاحتفال مع الجنود الروس في سوريا احتفالاً بالنصر وبأعياد رأس السنة.
سوريا باتت اليوم مستنقعًا ليس فقط للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران وكوادر «حزب الله» التي تتلقى خسائر بصفة دورية وإنما حتى من اللاعب الجديد روسيا بحمولات مرحلة أفغانستان ومحاولة دخول المنطقة من بوابة عسكرية، حيث لا يمكن لها مع بوتين تقديم أي شيء للمنطقة خارج أقواس الحرب واللعب على ملفات الإقليم المنقسم بين منطق الميليشيا بقيادة إيران ومنطق الاستقرار والتنمية بقيادة المملكة ودول الخليج.
ساعة الحسم لا تبدو وشيكة في سوريا، حيث لا يزال ثلثا الأراضي السورية خارج نطاق نظام الأسد الهش حتى مع الإسناد الإيراني الروسي، وعدم تدخل مرتقب للولايات المتحدة سيزيد من تعقيد الملف الذي تفوق على الأزمة العراقية مع صدام حسين لكن اليوم بتبعات مستقبلية أكبر وبفواتير سياسية باهظة وبتحول كبير في مكانة الولايات المتحدة الغارقة في الداخل منذ ثماني سنوات أوبامية.
ترامب سيرث سوريا بنظام هش لا يستطيع البقاء إلا بدعم خارجي وبتسليم شبه كامل للبلد على طريقة الاحتلال المقلوب الذي تمارسه روسيا وإيران، وربما أكثر السيناريوهات المتفائلة تتحدث عن مناطق آمنة تدشنها الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب ووقف رحيل المهاجرين وممرات آمنة للمساعدات الإنسانية، ولن يكون أي من ذلك دون تفاهم تفصيلي مع الولايات المتحدة، إضافة إلى الدول المهمشة الآن في الصراع السوري والتي لا يمكن تصور نهاية لها باستبعاد كتلة مؤثرة وقوية كالخليج.
وبحسب أندرو تابلر في ورقة بحثية قدمها لبرنامج السياسة العربية في معهد واشنطن فإن على الولايات المتحدة الخوض في مفاوضات شاقة وعسيرة للتواصل مع موسكو إلى مقاربة الملف السوري بشكل جديد مع الاستمرار في الضغط على الأسد والدعم السري لجماعات محددة من المعارضة، أو الانتقال إلى استراتيجية أخرى في حال فشلت المفاوضات تتمثل في إحداث انقسام بين روسيا وإيران حول ملف سوريا والضغط على موسكو بترحيل الميليشيات الشيعية خارج سوريا وإبقاء «حزب الله» بعيدًا.
الأكيد أن التدخل الأميركي طال انتظاره، ومع مرور الوقت دون تحديث استراتيجية جديدة للمنطقة، فإن الأزمات ستكبر، وبحسب الجنرال جون ألن من مشاة البحرية فإنه «إذا لم تعمل الولايات المتحدة على حل القضايا المرتبطة بالشرق الأوسط، فنحن مقبلون على أزمة استراتيجية كبيرة»، مؤكدًا أن «المشكلة مع تنظيم داعش هي أن الولايات المتحدة كأمة لا تبحث في العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية المسببة لتطرف مئات الآلاف من الرجال والنساء في جميع أنحاء العالم، والتي أسفرت عن قيام سلسلة من المنظمات المتطرفة».
كعكة سوريا التي يحاول المقامرون اقتطاع أكبر نصيب منها ستتحول إلى أزمة مؤرقة؛ «داعش» يسيطر على ثلث سوريا، وهي ذات حصة النظام الذي يتحدث عن «سوريا الحيوية» بعد الانتصار المؤقت في حلب، لكن هذا الانتصار غير مؤكد في ظل نسبته إلى الميليشيات الشيعية و«حزب الله» مدعومة بطائرات روسية وبخروج لهذه الميليشيات في أي مفاهمة أميركية روسية قادمة يرجح أن تعود التنظيمات المقاتلة للمهاجمة، لا سيما أن نظام الأسد أفلح بطريقة غير مسبوقة في التاريخ الحديث للدولة العربية على خلق كتل إرهابية وأجيال جديدة لديها ذاكرة منهكة جراء القتل بالبراميل والتشريد، هذا الجيل الجديد ليس لديه ما يخسره، وفي حالة خروجه من سوريا فإنه يتحول إلى قنبلة موقوتة في أي مكان يذهب إليه للأسف، كما أن عودة المقاتلين الأجانب ستزداد وتيرتها إذا ما آلت الأوضاع إلى مزيد من التدخل الخارجي.
الفراغ السياسي الذي يتحمل المجتمع الدولي والولايات المتحدة الجزء الأكبر منه بسبب القدرة على التأثير وحشد قرار سياسي دولي، هو ما يخلق أجيالاً من الميليشيات المسلحة الجديدة ذات عمق اجتماعي ضارب في الأرض، وهي مرحلة جديدة في مسيرة الإرهاب المستقر في الأرض وليس العابر أو المؤقت كما في حالات سابقة.
المسألة أبعد من نهاية «داعش» أو «القاعدة» أو السيطرة على حلب أو إدلب، فبقاء الإرهاب السياسي اليوم قائم بمسببات بقاء العنف بالبحث عن أعذار رحيل لاستمرار النظام السوري الذي تفوق استخباراتيًا في لعبة الكراسي بين الميليشيات والقاعديين، وهي حالة يبرع نظام الأسد أو المخلوع في اليمن في اللعب بها.
الحفاظ على مكون الدولة مهمة صعبة وتحتاج إلى تفهم ودعم دولي، وفي نفس الوقت بحاجة إلى فهم المكونات السياسية لا سيما المعارضة في فهم ما سيحدث حال انهيار الدولة، هذا الفهم والتفهم غائب في مواقع كثيرة من دول هذه المنطقة التي باتت مسرحًا للتجريب.