غسان الإمام
صحافي وكاتب سوري
TT

الحرب الإلكترونية تملأ العالم الافتراضي بالتضليل

هل نعيش لنكذب؟! أم نكذب لكي نعيش. وننجح. وننتصر؟! حاولت الفلسفة أن تبحث عن الحقيقة. فوجدتها كمية نسبية. ليست هناك حقيقة كاملة في حياتنا وعالمنا. ربما علم الرياضيات هو الحقيقة المطلقة. فالرقم لا يكذب. ولا يقبل النفي والجدل. غير أن الرقم حقيقة صماء. جافة. متقشفة. من الصعب أن تعيش. وتلوك الأرقام. بدلاً من تداول الكلمات.
الدين أيضًا بحث عن الحقيقة. لكن الإيمان لا يحتاج إلى الفلسفة، لتقديم الدليل على الاعتقاد بأن الله هو الحقيقة الأزلية الخالدة. بعض المذاهب يجد في «التقية» وسيلة للمواربة والتغطية. فتبطن غير ما تعلن. بمعنى آخر، التقية تجيز التستر على الحقيقة. أو بالأحرى تشرع التضليل والكذب، لتجنب ما تعتبره قهرًا لها وحرمانًا.
غير أن الكذب ظل استثناءً في حياتنا نحن الناس العاديين. فنحن نجد في التزام الاستقامة، في التعامل والتواصل، التزامًا بالفضيلة التي تأبى الخداع. والمراوغة. والتضليل. السياسة فن إدارة الناس وحكمهم. وهذا الفن لا يحتاج إلى حقائق، بقدر ما يحتاج إلى تجارب ووقائع. هنا تبدو الشفافية مطلوبة في السلطة. مع ذلك، فالناس يفضلون التعامل مع السلطة والأقوى، بشيء من المداهنة، في مقابل أن تؤمِّن لهم أمنهم. واستقرارهم. وخبزهم. لكن المتسلط لا يحب. أو لا يستطيع أن يظهر فوق حصانه عاريًا أمامنا.
هل تراني أتفلسف؟ لا. إنما أرى أن الناس وجدوا في العالم الافتراضي الفسيح الذي وفرته لهم ثورة الإعلام الإلكتروني، نوعًا من العزاء للنفس، عن عالمهم المادي المرهق. وكما وفر علم الذرة طاقات هائلة لخدمة حياتنا السلمية، فقد قدم علماء الذرة للدولة قنبلة نووية كافية للقضاء على الحياة الإنسانية. ثم أعلنوا أنهم ندموا!
كذلك، فنحن نقدم على تشويه نقاء وصفاء هذا العالم الخيالي الذي نسبح فيه، بتضليل المعرفة! إننا ببساطة، بدأنا نكذب. بدأنا نشوه هذا القدر اليسير من الحقيقة المتوفر لنا. فهل تثق بالمعلومات عن الأحداث. والسياسات. والتطورات التي تبثها اليوم ملايين مواقع الاتصال الاجتماعي؟ أبدًا.
الدولة أيضًا عرفت كيف تستطيع أن تحجب عنا هذا العالم البهيج للحرية الافتراضية. بل تمكنت من مراقبتنا. وتصويرنا في شارعنا. وبيوتنا. الأجهزة الأمنية الأميركية جمعت معلومات عن عشرات ملايين المواطنين الأميركيين، بما يكفي لتدمير حياتهم. واغتيالهم نفسيًا. وسياسيًا. واضطر الرئيس أوباما للتدخل بالتشريع القانوني، للحد من «مواهب» هذه الأجهزة. لكن أي دولة في العالم تستطيع أن تفعل ما فعلت أميركا بمواطنيها.
نمضي خطوة أخرى في هذه التعرية الفضائية، لنجد أن أجهزة أوباما المخابراتية استغلت توغلها في العلم الإلكتروني، للتنصت على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في هاتفها الإلكتروني. فإذا كانت المستشارة ميركل تملك الأجهزة التي تكشف القرصنة الإلكترونية، فهل أنت، يا عزيزي، تملك حقًا ما يحميك من تنصت ميركل. وأوباما. وبوتين. وغدًا ترامب، عليك؟
سقطت المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون مرتين. فقد سبقها منافسها أوباما، بالاتصال الإلكتروني مباشرة بملايين الناخبين (2008). ثم ها هي كل المعلومات التي جرت قرصنتها من الكومبيوتر في مكتبها. ومكاتب لجانها الانتخابية. ومكاتب حزبها الديمقراطي، منشورة في ويكيليكس.
جرت عملية اغتيال سياسي للمرشحة الرئاسية. عندما علم الناخبون أكثر أعرضوا عنها. الأنكى أن مخابرات أوباما تجاهلت دعمه الظاهري لها. فعادت إلى اتهامها في ذروة الحملة الانتخابية، بالتقصير في توفير الحماية للسفير الأميركي في ليبيا، عندما كانت وزيرة للخارجية.
لماذا نشرت المخابرات الأميركية معلوماتها عن علاقة هيلاري بمصارف «وول ستريت». وعن مؤسستها «الخيرية» مع زوجها بيل وابنتها تشيلسي التي جمعت عشرات ملايين الدولارات، لقاء «محاضرات» ألقوها في دول أجنبية؟
هل هذه المعلومات حقًا صحيحة؟ ثم لماذا لم تنشر هذه الأجهزة معلومات مماثلة تملكها عن الرئيس دونالد ترامب؟ ها هي الآن تهدده بنشرها. وهي تعرف أنه قرر تغيير رؤسائها ومديريها، بآخرين موالين له. وهو يقول إنه انتُخب. فلنطوِ الصفحة، فيما كان سيشكك بصحة نتائج الاقتراع، لو فازت منافسته!
مرحلة جديدة في تشويه الحقيقة والواقع، تدخلها الحرب الإلكترونية العالمية. نحن الآن على عتبة مزج الفضيحة السياسية بالفضيحة الجنسية. قبل أيام قليلة، اقتحمت الشرطة البريطانية منزل اللاجئ السياسي الروسي فلاديمير بوكوفسكي (73 سنة) في لندن، لتصادر جهاز الكومبيوتر على مكتبه. ثم تقدمه إلى القضاء. بتهمة اقتناء معلومات وصور كومبيوترية غير لائقة، لصبية مراهقين وأطفال.
على القضاء البريطاني أن يفصل في حقيقة هذه المعلومات. هل هذا المعارض للرئيس الروسي بوتين مهووس جنسيًا (بيدوفيليا)؟ أم أن الصور والمعلومات بُثت وزرعت في الكومبيوتر بسهولة متناهية عن بعد بعيد، كما يقول بوكوفسكي في الدفاع عن نفسه؟
ليست التقنية الإلكترونية الروسية وحدها قادرة على زرع معلومات وصور مضللة في الكومبيوتر. هذه التقنية بدأت في ممارستها دول أخرى كبرى وصغرى. وشبكات مافيات القرصنة الإلكترونية لصالحها، أو في مقابل أجر مادي، لصالح دول. وشركات. وأشخاص. إنها الحرب النفسية والدعائية المستعرة، لتدمير. واغتيال. وإفلاس الآخرين، سياسيًا. واجتماعيًا.
يقول بوكوفسكي الذي كان مستشارًا لمارغريت ثاتشر إنه ضد هذه الإباحية المنحطة. ويضيف أنه سبق له أن عارض بشدة زميله الراحل أَلِكْزاندر ليتفينينكو الذي كتب مقالاً إلكترونيًا اتهم فيه بوتين بأنه مهووس جنسيًا. ردت المخابرات الروسية، بإرسال «صديق» يدس السم في فنجان ألكزاندر الذي سبق له العمل في المخابرات الروسية. ومات مسمومًا (2006).
وهكذا، فهذا العالم الافتراضي الذي ابتكرناه لتخفيف آلام الواقع عنا، بات عالمًا موبوءًا بالكذب. والتضليل. ويمارسه الجالسون أمام الكومبيوتر، أطفال أبرياء. ومدونون فاضلون. وقراصنة. وجواسيس. وأجهزة لا تعرف شيئًا عن بعضها بعضًا. وطائرات «درون» تسير إلى أهدافها بأزرار إلكترونية، لتقتل أناسًا، ربما هم أنفسهم مارسوا القرصنة. والقتل، باسم الدين.
أعود إلى السؤال الأول في هذا الحديث: هل نعيش لنكذب؟ أم نكذب. ونضلل لنعيش؟ ما أفدح. وأقسى الجواب!