مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

واشنطن ونهاية الأوهام الروسية

في مكتبه داخل مبنى وزارة الخارجية الضخم على بوليفارد سمالينسكيا وسط العاصمة الروسية موسكو، سيجلس وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف لأيام طويلة مستغرقًا في قراءة نتائج الانتخابات الأميركية، محاولاً اكتشاف هوية نظيره القادم، الذي سيحمل على عاتقيه تطبيق السياسية الخارجية الأميركية الجديدة، بغض النظر عمن سيفوز بالسباق الرئاسي كلينتون أم ترامب، يدرك لافروف في قرارة نفسه أن زمن السذاجة الأميركية انتهى، وبات من المستحيل أن يحظى مجددًا بوزير خارجية لأقوى دولة في العالم، يتصرف كما تصرف جون كيري في 4 سنوات كان خلالها أشبه بالمتحدث باسم منظمة الصليب الأحمر الدولي، وفي أقصى انفعالاته كان يعبر عن موقف بلاده كما لو أنها سويسرا أو لوكسمبورغ.
في الثامن من الشهر الحالي، فتحت صناديق الاقتراع أمام الناخبين في 50 ولاية أميركية، وستغلق أبواب ونوافذ الكرملين على كبار مستشاري الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سيجد ثلاثي صقور الإدارة، وهم وزير الدفاع سيرغي شايغو، ونائب رئيس الوزراء ديميتري راكوزن، ووزير الخارجية سيرغي لافروف أنفسهم بمواجهة أسئلة صعبة، حول ما تخبئه كلينتون وما سيفعله ترامب، فالثقة بالطرفين محدودة، الأولى طموحاتها إمبراطورية، والثاني لا ميزان لمواقفه، الاثنان سيخضعان لهيمنة مؤسسات الدولة المتعطشة لاستعادة نفوذها الداخلي والخارجي بعد إقصاء استمر 8 سنوات.
عندما ينظر الروس إلى كلينتون، تعود إلى أذهانهم مشاهد من حروب البلقان وأزمات القوقاز، والانهيار الاقتصادي سنة 1998، والانكشاف أمام واشنطن في آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين، وهم على يقين بأن حكومتي جورجيا وأوكرانيا ستتنفسان الصعداء برحيل أوباما، كذلك سيتراجع مستوى القلق عند اللتوانيين من هجوم مباغت لروسيا شبيه بما جرى للقرم ومناطق في الشرق الأوكراني، ولا يستبعد أحد في موسكو أن الأتراك سيخففون من اندفاعاتهم الروسية، وأن العلاقة بين أنقرة وواشنطن ستعود مقيدة بنظام المصالح العليا للأمن القومي للبلدين، المحكوم بالسقف الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي، وعندها ستكون طهران أمام خيارات صعبة، إما اتخاذ خطوات ضرورية للتمايز عن الروس، وهو خيار له عواقبه الداخلية والخارجية، وإما المضي معهم في مواجهة غير متكافئة تعتمد على سياسة استنزاف طويلة، مما سيهدد مستقبل النظام وسيضعف قدرته على احتواء الامتعاض المتصاعد في الداخل.
في المقابل، خفت الحماسة الروسية للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، ولم يعد بوسع موسكو المراهنة على المواقف التي أطلقها أثناء حملته الانتخابية وحديثه عن إمكانية الشراكة معهم في عدة ملفات، وخصوصًا سوريا، فما وعد به ترامب قبل الانتخابات ليس بالضرورة أن يطبق بحذافيره بحال انتخابه، فوعوده على الأرجح ستخضع لشروط مراكز صنع القرار في الحزب الجمهوري، التي تقوم بغالبيتها على مبدأ التفوق الأميركي، فتصبح موسكو في موقع المكلف من واشنطن بإدارة بعض ملفات، وهي بمثابة العودة إلى ما وصف به المفكر الأميركي فوكوياما روسيا في كتابه الشهير «نهاية التاريخ» بأنها الشريك الصغير، وهي شراكة إن حصلت في ملفات الشرق الأوسط ستجبرها على التخلي عن ارتباطها الإقليمي بطهران، وهو بحد ذاته خسارة فعلية لأدوات النفوذ والسيطرة التي كانت تؤمنها طهران لموسكو في منطقة الشرق الأوسط.
أما أوروبا المتضررة المباشرة من سياسة الانكفاء الأوبامية، فواجه قادتها في السنوات الأخيرة محاولة موسكو إعادة هيمنتها على ما كان يعرف خلال الحرب الباردة بالمجال الحيوي السوفياتي شرق القارة الأوروبية.. ولم تتردد الحكومة البريطانية الجديدة بإرسال قرابة 1000 جندي إلى البلطيق، فيما يشن وزير خارجيتها هجومًا عنيفًا ضدها تخطى به حدود الأعراف الدبلوماسية في تبنٍ صريح لموقف الرأي العام البريطاني الرافض لسلوكيات الكرملين الوحشية، فيما مضت ألمانيا في تطبيق مزيد من العقوبات الاقتصادية، بينما تذهب باريس بعيدًا في سياسة فضح الغطرسة الروسية في سوريا أمام المجتمع الدولي، حيث نجح الضغط الأوروبي في طردها من مجلس حقوق الإنسان، وتوجيه تهم لها داخل مجلس الأمن بارتكاب جرائم حرب في سوريا.
عند الإعلان عن اسم الرئيس القادم، سيدرك القادة الروس أن قواعد اللعبة قد تغيرت، وأن إمعانهم في تحدي الإرادة الدولية والتصرف غير الواقعي كأحادية قطبية، إضافة إلى أوهام العودة إلى الثنائية القطبية ستدفع الغرب إلى حصارهم واستدراجهم إلى حروب بالوكالة، بهدف استنزافهم ودفعهم إلى سباق تسلح هم أعجز عن خوضه، فلا ارتفاع أسعار البترول في السابق أو إرسال الطائرات والبوارج الحربية إلى بقع مختلفة من العالم، واستعراض الجيل الجديد من الصواريخ الباليستية «سارامات» تكفي لاستعادة الدور العالمي، فالخزينة الروسية الآن شبه فارغة، أما الخردة الحربية السوفياتية التي تم طلاؤها من جديد فليست بموقع القدرة على خوض أي مواجهة عسكرية جدية، فما نفع عمليات التجميل لشيء انتهت صلاحيته؟