سوسن الشاعر
إعلامية بحرينية تكتب في بعض الصحف البحرينية منها «الوطن» و«بوابة العين الإخبارية». عضو في مجلس أمناء «جائزة الصحافة العربية». كانت مقدمة لبعض البرامج التليفزيونية. خريجة جامعة بيروت العربية.
TT

صراع الهويات

هزنا في البحرين مقطع فيديو نشر في ظل الاضطرابات التي جرت في البحرين عام 2011 لعامل تنظيف هندي في المطار، وقف يتأمل ورقًا لاصقًا على الجدار لأعلام الدول، وحين رأى علم بلاده قام بحركة لا إرادية، إذ رمى المكنسة التي بيده وأدى التحية للعلم، ثم عاد والتقطها ومسح دمعه، وعاد لعمله دون أن يلحظ أن أحدًا يصوره!! للعلم فقط، في البحرين أقدم معبد هندوسي في المنطقة وعمره 200 عام، ويؤمه اليوم أكثر من 140 ألف هندوسي لإقامة صلاتهم واحتفالاتهم الدينية.
أثرت فينا الصورة كبحرينيين حين ذاك، لأن الجدل كان على أشده حول القواسم المشتركة التي تجمع بين فسيفساء المجتمع البحريني بتعدد أعراقه وأصوله الإثنية ودياناته ومذاهبه، وبتاريخ طويل من التعايش السلمي بين هذه الأطياف كان مضربًا للأمثال، لكنه تعرض للاهتزاز نتيجة الاضطرابات وإحداث الفوضى، فسمعنا معرفات جديدة للبحريني، فهذا (أصيل) وذاك (دخيل)، فكان سلوك عامل التنظيف الهندي حسمًا لذلك الجدل العقيم.
في الهند 400 لغة وتعددية دينية تشمل الديانات السماوية وغيرها، وتنوع عرقي يضم الآريين واليونانيين والمغول والشعوب المتحدرة من وسط آسيا، بالإضافة إلى من يعودون بأصولهم إلى العرب والترك والأفغان، لكنني لم أجد هنديين يختلفان على احترام العلم الهندي، ولم أسمع عن خلاف جرى بين الهنود على العَلم ودلالاته، بل رأيت المسلم الهندي الشمالي والبوذي الهندي من أوساط الهند، والمسيحي من الجنوب، وقد لا يفهم أحدهم الآخر، ولون بشرته وشكل سحنته يختلف عن الآخر، إنما جميعهم يقفون بإجلال وباحترام أمام العَلم، في حين أننا ما زلنا نتجادل حول الضرورة الرمزية للعلم.
العَلم كالوطن لا بد أن يكون نقطة تجمع لجميع الفرق والمذاهب والأعراق في المجتمعات ذات التعددية، وظيفته لم الشمل وتثبيت قاسم مشترك بينهم، لذا فإن الاحتفاء به وتكريس أهميته في الوجدان كأرضية جامعة إحدى مهام الدولة، إلى جانب الإقرار بتلك التعددية واحترام اختلاف وتنوع أفرادها العرقي والديني، احترامًا ينص عليه دستوريًا وتعمل الدولة على إنفاذ ذلك الاحترام قانونًا وممارسة، لذا نص الدستور الهندي في الفقرة 295 منه على «أن كل من يحاول بسوء نية وبقصد مبيّت المس بالمشاعر الدينية لفئة من المواطنين سواء بالكلمة المكتوبة، أو المنطوقة، أو باستخدام علامات معينة، أو سب ومحاولة القيام بذلك سيكون تحت طائلة القانون الذي يعاقب إما بالسجن لمدة ثلاث سنوات على الإساءة للمشاعر الدينية، أو الغرامة، أو هما معًا».
التعايش بين المختلفين على أرض واحدة لا بد أن يفرض بقوة القانون النافذ ولا يستهان بأي صورة من صور المساس بقواعد اللعبة المتفق عليها بين أطراف اللعبة.
ونحن في عالمنا العربي لسنا خارج نطاق الواقع، دولنا حافلة بشتى صور التنوع، فالتنوع العرقي الإثني يشكل نسيج مجتمعاتنا، ودلني على دولة منا أحادية العرق، وإن لم يكن بيننا تنوع ديني طائفي، فالتنوع المذهبي موجود وبقوة، ولا سبيل للتعايش بينهم إلا أن يكون لكل من أطيافها الحق في البقاء والاحتفاظ بهويتها العرقية أو المذهبية، وللدولة الحق في أن تحترم تلك التعدديات، قوانين الدولة ومؤسساتها ورموزها الجامعة، وأولها العَلم.
لذا كانت صدمتنا في البحرين كبيرة، أن تقبل مجموعات شيعية أثناء الاضطرابات وتهين علمها بتغييره وإبدال السهام الخمسة البيض في العلم البحريني باثني عشر سهمًا، كدلالة مذهبية للمذهب الاثنا عشري، أو تدوس جوازها فيتبدى استلاب الهوية في أبشع صوره، وتنتصر الهوية المذهبية الضيقة القاتلة، كما سماها أمين معلوف على الهوية الجامعة الرحبة للوطن.
هذه المجموعة التي باعت هويتها الرحبة واستبدلت بها هوية ضيقة قاتلة ليست في البحرين فحسب، هي في جميع دولنا العربية، ومنحها الخريف العربي مساحة ودعمًا دوليًا لتبرز وتعلن عن انفصال هويتها.
ولهذا يستحق الإماراتيون الإعجاب باستراتيجيتهم الشاملة للحفاظ على هويتهم والتصدي لأخطر مهدداتها، فإلى جانب التصدي القانوني للجماعات الدينية الداعية لعلو الهوية الضيقة المذهبية على الهوية الوطنية الجامعة، تحتفي الإمارات بالعلم الوطني، احتفاء يليق برمز جامع لمهددات تطال هويتها الوطنية.
لم يترك الإماراتيون ضرورة احترام رمزية العلم للاجتهادات الفردية ولجدل شرعيته من عدمها، بل سخرت الفن والإبداع وتعاملت بجدية مع حملتها الوطنية للعمل، حتى قيادات الدولة التزمت بها ولم تترفع عنها جنبًا إلى جنب مشاهيرها في مجال الفن والرياضة، أطفالها مع كبارها، في تناغم جعل الإمارات كلها ترفع ذات الشعار وتتحدث لغة واحدة.
دولنا كلها تحتاج إلى النظر بجدية إلى تهديدات الهويات القاتلة الضيقة التي أطلت علينا بصفاقة منقطة النظير تعزيزًا للفوضى التي يراد خلقها ونشرها في دولنا، وعليه فإن مهمة التصدي للتهديدات التي تتعرض لها هويتنا الوطنية يجب ألا تترك للاجتهادات الفردية أو للزمن أن يعالجها، بل لا بد للدولة كجهة مركزية أن تضعها ضمن أخطر المهددات الأمنية وتساوي بينها وبين عنصر الإرهاب وحمل السلاح.