ربما أن غيري قد كتب تحت هذا العنوان لكن ما سأكتبه هو في جزء منه نتيجة تجربة شخصية، إذْ إن الكاتب والصحافي البريطاني باتريك سيل الذي كان عمل مراسلاً ميدانيًا لصحيفة الـ«أوبزرفر» البريطانية في بعض دول الشرق الأوسط كان قد ظهر له في منتصف ستينات القرن الماضي كتاب تحت عنوان: «الصراع على سوريا» منعت السلطات السورية «البعثية» توزيعه، لكن القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي صورت نسخًا مترجمة منه قامت بتوزيعها على الأعضاء القياديين في هذا الحزب، وعلى بعض كبار المسؤولين السوريين وكانت قد وصلتني نسخة منه لأني كنت بعثيًا لكني لم أكن قد تبوأت أي مواقع قيادية، لكنني كنت من الحزبيين الذين يعتبرون من رموز الصفوف الأمامية.
يومها كان قد مرّ على انقلاب الثامن من مارس (آذار) عام 1963 نحو ثلاثة أعوام، وكان قد ساد الاعتقاد، بعد تقلبات كثيرة وانقلابات عسكرية متلاحقة أولها انقلاب الجنرال حسني الزعيم في عام 1949، أنَّ الصراع على سوريا قد حُسم وأن الأمور في هذا البلد العربي المحوري قد استتبت وأنَّ المواجهة، في أصعب سنوات الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي على هذه الدولة، قد أصبحت و«نهائيًا» لمصلحة الاتحاد السوفياتي الذي كان الشيوعيون العرب وكان أصدقاؤه أيضًا في المنطقة العربية يلحقون باسمه وكلما ذكر صفة «العظيم»!!
وبالطبع فإنه عندما استطاع الشيوعيون الروس بتوجيهات فلاديمير اليتش لينين، الذي كان عاد توًا من المنافي الأوروبية إلى موسكو الملتهبة بعربة مصفحة بالرصاص في قطار ألماني، وبقيادة كلٍّ من جوزيف ستالين وليون تروتسكي إسقاط إمبراطورية الـ«رومانوف» لم يكن يخطر ببال أي كان أنَّ تلك الدولة الشيوعية الشابة سوف تصبح دولة عظمى بسرعة الضوء وأنَّ دورها سوف يكون رئيسيًا وأساسيًا في القضاء على ذلك الوحش الكريه أدولف هتلر وفي الانتصار على الظاهرة النازية وأنها ستحقق خلال سنوات قليلة لاحقة تمددًا «كونيًا» سيصل إلى أطراف أصابع قدمي الولايات المتحدة الأميركية والمقصود هنا هو كوبا فيدل كاسترو.
كان كبار قادة ورموز حزب البعث العربي الاشتراكي - الذي غدا مهيمنًا على سوريا، بعد سلسلة الانقلابات العسكرية التي اقترب عددها من نحو عشرين انقلابًا كلها كانت في إطار الصراع على هذا البلد العربي المحوري بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي وبين الدول العربية المعتدلة والدول العربية اليسارية والمتطرفة - منقسمين إلى تيارين؛ تيار يدَّعي أنه يساري ويدعو إلى تبني الماركسية – اللينينية وإلى الاقتراب من موسكو حتى حدود الاندماج الكامل ويمثله في المواقع العليا في الدولة وفي الحزب كلٌّ من الدكتور نور الدين الأتاسي (سني من مدينة حمص) الذي، بعد حركة الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966، غدا رئيسًا للجمهورية العربية السورية وأمينًا قوميًا عامًا لهذا الحزب، واللواء صلاح جديد (علويٌّ) من جبلة على الساحل السوري إلى الجنوب من مدينة اللاذقية، الذي غدا أمينًا قطريًا مساعدًا.
أمّا التيار الآخر الذي اعتبر «يمينيًّا» وزُجَّ لاحقًا برموزه في السجون وطوردوا داخليًا وخارجيًا فقد كان على رأسه ميشيل عفلق المسيحي – الأرثوذوكسي من مدينة دمشق نفسها الذي هو في حقيقة الأمر مؤسس هذا الحزب، وصلاح البيطار المسلم الدمشقي أيضًا والذي كان زميل دراسة لعفلق في باريس ومعهما من خارج سوريا الدكتور منيف الرزاز، ولقد كان هؤلاء الثلاثة وغيرهم من هذا التيار نفسه مع تمتين علاقات سوريا (الجديدة) بالاتحاد السوفياتي ولكن دون تبعية إلحاقية ومع الحرص على إبقاء النوافذ مفتوحة على كل دول الغرب «الرأسمالي» ومن بينها حتى الولايات المتحدة الأميركية وعلى الدول العربية «المحافظة» التي كان يصفها هذا التيار الآنف الذكر الذي هو الأكثر يسارية وتطرفًا، وكان الرئيس السوري السابق حافظ الأسد من المحسوبين عليه، بأنها «رجعية» وأنها محسوبة على المعسكر الغربي في مرحلة صراع معسكرات تلك المرحلة التي يبدو أنها باتت تعود مرة أخرى بعد غياب سنوات طويلة كانت بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بدايات تسعينات القرن الماضي.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه هنا، وهذه مسألة مهمة بل في غاية الأهمية، هو أن حكم تيار الثالث والعشرين من فبراير عام 1966 اليساري والمتشدد والأقرب حتى حدود الالتصاق بالاتحاد السوفياتي قد انتهى بعد انقلاب نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970 إلى حافظ الأسد الذي بعد تثبيت نفسه في الحكم ما لبث أن كشف نقاب الزيف عن وجهه وانتقل وبسرعة الضوء من جانب إلى الجانب الآخر وكل هذا في حين أن التيار الثاني، أي تيار ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومنيف الرزاز، قد انتقل إلى بغداد بعد انقلاب عام 1968 الذي كان نفذه باسم حزب البعث أحمد حسن البكر وصدام حسين ومعهما عدد كبير من ضباط الجيش العراقي من بينهم حردان التكريتي الذي اغتيل في الكويت وصالح مهدي عماش الذي بعدما تبوأ موقع نائب رئيس الجمهورية استبعد كسفير في موسكو وفي باريس وفي فنلندا حيث توفي هناك في ظروف غامضة.
والمهم.. أن سوريا قد بقيت محسوبة على الاتحاد السوفياتي حتى سقوطه وانهياره نهائيا في بدايات تسعينات القرن الماضي وأن الحكم فيها بقي يعتبر حكم حزب البعث رغم كل التحولات التي كانت شهدتها نهايات مرحلة حافظ الأسد ومرحلة ابنه بشار الأسد الذي انتهى كمجرد «برغ» صغير في الآلة الروسية التي تضخمت وأصبحت كبيرة جدًا في عهد الرئيس باراك أوباما الذي اتسمت ولايته الثانية بالاستسلام لإيران وشروطها المعروفة بالنسبة لعقد صفقة النووي البائسة، وبالميوعة الشديدة تجاه صعود فلايمير بوتين وتجاه كل تقلبات الأزمة السورية.
ثم ولقد كان الأسوأ عندما تولدت قناعة لدى الرئيس أوباما بأن الشرق الأوسط لم تعد له أي قيمة «استراتيجية» وأنه لم يعد بأهميته السابقة بالنسبة للولايات المتحدة وأن الأفضل لأميركا أن تبقى تراهن فيه على دولتين فقط هما إسرائيل وإيران وأن تنقل اهتمامها الرئيسي إلى الشرق الأقصى.. أي إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأيضًا الهند وباكستان.
وحقيقةً إن هذا أوجد فراغًا سارعت روسيا الاتحادية التي انتدبها فلاديمير بوتين وانتدب نفسه لخلافة الاتحاد السوفياتي وخلافة ستالين وفي العودة العاجلة إلى سوريا التي وضعها بشار الأسد بتصرفاته الدموية الحمقاء على قارعة طريق الصراعات الدولية وحيث أصبحت هذه الدولة العربية ليست تابعة وفقط بل محتلة احتلالاً فعليًا.
وهكذا وبالنتيجة فإن روسيا الاتحادية في عهد فلاديمير بوتين قد حققت انتصارًا كبيرًا ولكن رخيصًا في هذا الصراع المستجد على سوريا وهو انتصار قد يستمر لعدة عقودٍ مقبلة اللهم إلاّ إذا تداركت الإدارة الأميركية الجديدة الأمور وبادرت إلى هجوم معاكس تستغل فيه أوضاع الروس الاقتصادية المتردية وتستند فيه إلى المعارضة السورية المعتدلة وإلى التعاون مع الدول العربية المعنية فعلاً ببقاء سوريا دولة عربية مستقلة وموحدة ولكل أبنائها وتقدم مصالح شعبها على كل مصالح ولا تتبع لأي دولة كبرى لا شرقية ولا غربية.
8:2 دقيقه
TT
سوريا.. هل الصراع عليها سيتجدد بعد الهيمنة الروسية؟!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة