سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

تشرين وأكتوبر والفاتح

لم يعد الأمر مهمًا، في أي حال. بعد حلب، أصبحت معظم القضايا الكبرى ترفًا بعيدًا أو ذكرى لا ضرورة لها. نفهم طبعًا لماذا لم تجد سوريا سببًا للاحتفال بذكرى «تشرين». فالأهم من تحرير الجولان من الإسرائيليين، تحرير شرق حلب من حلب. أما ذكرى «أكتوبر» في مصر، فحائرة كالعادة. وما زلت - بكل نية طيبة - لا أفهم لماذا كل هذا الصخب في ذكرى 5 حزيران (يونيو)، وكل هذا الصمت في ذكرى 6 أكتوبر. كأنما كارهو الانتصار لم يكتفوا بمقتل أنور السادات على تلك المنصّة، يوم لم يجدوا في تحرير سيناء إلا سببا لاغتيال مهندس العبور.
هل هي الدرامية العربية؟ العثور على بطولة في الهزيمة، وعلى عار في الانتصار؟ بكل مفاهيم الحروب كان 6 أكتوبر عملية حربية مذهلة. وكان لها أبطال، أحدهم قائد سلاح الجو حسني مبارك، الذي أنسى مصر والعالم ما حدث للسلاح الجوي المصري في 6 حزيران، أو بالأحرى في الساعات الثلاث الأولى منه.
هذا تاريخ. ما حدث بعد ذلك لا علاقة له بـ1973. جمال مبارك يؤثر على صورة حسني مبارك، لكنه لا يلغي تاريخه. و«تسيّد» سوزان مبارك لا يمحو سطرًا من 6 أكتوبر. هذا تاريخ وذاك تاريخ آخر. ونحن علاقتنا سيئة ومشوهة، وغالبًا مريضة، بالتاريخ. مرة كتبت سيدة من ليبيا تعترض على وصفي إدريس السنوسي بالورع، قائلة إنه كانت في أيامه 5 قواعد عسكرية أجنبية في ليبيا.
يا سيدتي، الذي كان أول من وصف إدريس الأول بـ«الورع» هو الحسن الثاني، لا أنا. وأنا استشهدتُ به لأنه عرف عن قرب الرجل الذي بنى وحدة ليبيا، والقائد الملهم الذي أراد إنقاذ الكرة الأرضية. القواعد الخمس كانت بقايا الحرب العالمية الثانية التي وقعت أعنف معاركها في ليبيا ومصر، ولم تقم بناء لدعوة شخصية من إدريس السنوسي. ولكِ أيضا أن تتأملي كيف فككت الولايات المتحدة أكبر قواعدها خارج أميركا، بمجرد أن حرك القائد ثلاث دبابات من حي البِركة في بنغازي.
لسنا وحدنا من يكذب في التاريخ. جورج برنارد شو قال في مسرحية «تلامذة الشيطان»: دعوا التاريخ جانبًا فهو يعرف جيدًا كيف تكذِب.
أما مشكلتنا نحن فهي إلغاء التاريخ. يا سيدة، إلى الآن لم تنظف ليبيا من بقايا أسلحة الحرب العالمية. ولو أُعطي الرجل الورع الوقت، ولم يبعده بضعة ملازمين «أحرار» عن مشروع الدولة، لما سُحقت ليبيا بأيدي جميع الغرباء.