أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

محكمة الشارع

قرر القاتل الذي أقدم على جريمة اغتيال الكاتب الأردني ناهض حتر أن محاكمته لا تكفي، وأن الدولة لن تعاقبه كما يستحق وكما يرضيه، بعد أن نشر قبل شهرين رسما كاريكاتيريا على صفحته في «فيسبوك» فيه إساءة للذات الإلهية وللإسلام. كما قرر أيضا أن اعتذار الكاتب عن الرسم وحذفه بعد أن انهال عليه سيل عارم من الغضب لا يشفع له. هناك محاكمة تنتظره في الشارع ومن الشارع.
ولهذه الحادثة المريعة شق غاية في الأهمية؛ وهو أن المتشددين في الأردن أو غير الأردن، وبحكم آيديولوجيتهم الدينية، لا يثقون بتقديرات الدولة ولا يحترمون مؤسساتها ومخرجات مؤسساتها، ما لم يكونوا جزءا منها أو تلحقهم منافعها، عدا عن ذلك هم يرون أن كل الدول لا تقيم شرع الله، وبالتالي لا ثقة بأحكامها. ناهض حتر، وهو مسيحي الديانة، اعتقل في أغسطس (آب) الماضي من الجهات الأمنية وأودع السجن لأسبوعين على خلفية الرسم المنشور، وأطلق سراحه بكفالة على ذمة القضية، وعندما حصلت حادثة الاغتيال كان على عتبة المحكمة، على موعد مع جلسة استماع حول تهمة الإساءة، لم يكن هاربا، ولم تتهاون الدولة مع الاتهام الموجه إليه، كان يخضع لمحاكمة وفق النظام القضائي الأردني. كل الإجراءات اللازمة كانت سارية، لكنها لم تكن مقنعة لمن يحمل آيديولوجية متطرفة، لا يعترف في المقام الأول بالدولة ولا أنظمتها ولا يحترم قراراتها، لذلك أصدر الحكم العادل - بحسب رأيه - من فمه لا من فم القاضي، ونفذه بيده لا بيد السجّان.
وفي هذا الجانب، من المهم القول إن موجة التطرف ابتليت بها كل دول المنطقة، لا الأردن وحده، وإن كانت أهم المراجع الدينية للجامعات المتطرفة مثل تنظيم داعش لديهم الجنسية الأردنية، لكن الحق أن لا جنسية للتطرف، هذه حالة ذهنية يصاب بها الخاضع لمنظرين متشددين أيا كانت المسافة الفيزيائية التي تباعد بينهم.
وعلى الرغم من أن قاتل ناهض حتر وصل إلى أقصى درجات العنف بارتكابه جريمته، لكنه يظل أقل خطرا من المنظّرين الذين يمارسون التحريض الناعم من خلال مواقعهم الوجيهة في المجتمع كأساتذة جامعة أو أطباء أو رجال أعمال أو قضاة، أو خلف رداء الدين كخطباء مساجد أو دعاة، ويمررون رسائلهم التحريضية من خلال وسائل الإعلام الاجتماعي المتاحة للناس، وينجون بفعلتهم بسبب غياب القوانين التي تجرّم أفعالهم.
المكانة الاجتماعية لهؤلاء خطر كبير محدق بالمجتمع، لأنهم يستقون تأثير كلمتهم منها، ويكفي لو أن واحدا منهم أطلق صفة الكافر على شخصية عامة، فإنه سيصبح لقمة سائغة ومشروع قتيل، ولو حوسب بعدها لقال: إنما كتبت رأيي، والرأي يمثل وجهة نظر وليس دعوة للقتل. لذلك قد يرتكب المجرم جريمة الإرهاب وينسبها لجماعة متطرفة مثل «داعش» وهو بعيد عن سوريا أو العراق، ولم ينضم فعليا لأي جماعة، وربما لم يسبق له حضور محاضرة للمحرض، لكن يكفي أنه واقع تحت تأثير التحريض بأي وسيلة من الوسائل الحديثة، هذا ما يجعل تجريم التكفير في موقعي «تويتر» أو «فيسبوك» أحد أهم وسائل لجم المتطرفين وحماية السلم الاجتماعي.
هؤلاء المحرضون الذين يعيشون ويعملون ويمارسون حياتهم الطبيعية بيننا وهم نجوم مجتمع، لديهم حسابات عدائية تجاه الدولة، يقومون بتصفيتها من خلال التحريض والتكفير بهدف الإخلال بالأمن، وبث الفرقة ومحاولة هز ثقة الناس بحكوماتهم، كما حصل مؤخرا من أسرة ناهض حتر التي حملّت الحكومة الأردنية مسؤولية اغتياله. وأذكر من سنوات مضت، أن أحد المتشددين زعم أن الله استجاب لدعوته وابتلى أحد مسؤولي الدولة «العلمانيين» كما يزعم، بالمرض حتى مات، وسار خلف هذا الادعاء بسطاء الناس وسذاجهم، صدقوا أن لهذا المنحرف كرامة من الله اصطفاه بها، لكنها ويا للأسف لم تطل دولا متجبرة وطغاة مجرمين يذبحون شعوبهم، بل يزعم أنها طالت هذا الشخص الذي هو أخوه في المواطنة. والحقيقة لو أن هذا المتطرف مجاب الدعاء، لكن أول من هلك هي الدولة التي ينتمي إليها، لأنها في نظر المؤدلجين المتطرفين عدوهم الأول.
وبغض النظر عن حادثة حتر، فإن استهداف الشخصيات السياسية أو الأمنية أو الإعلامية أو حتى الدينية المعتدلة، هدف معروف ومشروع بالنسبة للمتشددين، لأنهم في نظرهم كفار يحل فيهم القتل، ويثاب فاعله، ولأنهم حجر عثرة في طريق تمكنهم من بسط سيطرتهم وإشاعة فكرهم، وسبق أن أحبطت بعض الحكومات ومنها السعودية محاولات اغتيال ضد شخصيات نافذة أرادت هذه التنظيمات استهدافها، ويمكن متابعة التعليقات في موقع «تويتر» حول مقتل حتر لفهم كيف يفكر هؤلاء، ومدى تأثير التحريض على عامة الناس. لكن يظل السبيل الأهم والأسلم لحماية المجتمع هو كف أيدي مشرعي الاغتيالات عن مخاطبة العامة والتلاعب بقناعاتهم الدينية. وإن كانت منابر المساجد في السابق وسيلتهم لتقرر من الكافر ومن المسلم ومن يستحق القتل، فإن الوسيلة اليوم أكثر تأثيرا، لأن برامج التواصل الاجتماعي تخاطب عددا غير محدود من الناس حتى خارج الحدود الجغرافية، وليست جماعة محدودة حاضرة للمسجد أو صلاة الجمعة، وإيقاف هذا السعار المخيف بيد الدولة وحدها، مهما نددنا في الصحف، ومهما حاولنا توعية الناس بمزاحمة المحرضين على المنابر نفسها.
[email protected]