مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

الدين والسياسة.. دروس من تجربة الاتحاد الأوروبي

تبدو فرضية مبالَغًا فيها أن نقول إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جاء بدافع ديني، لكن برنت نيلسون وجيمس غوس في كتابهما «الدين والصراع على وحدة أوروبا» أو الحدود الثقافية للاتحاد الأوروبي، الذي نشرته جامعة جورجتاون عام 2015، يطرحان مقولة مفادها أن الكاثوليك هم أهل اتحاد، بينما البروتستانت هم أهل تفرقة، أو بصورة أدق داخل الديانة المسيحية وفي التجربة الأوروبية يبدو البروتستانت وكأنهم يؤمنون بالدولة الوطنية أساسا للنظام الدولي المستقر، بينما يرى الكاثوليك أن الاتحاد ما فوق الدولة الوطنية كتجربة الاتحاد الأوروبي هو عامل الاستقرار الأساسي. ترى هل يمكننا أن نطرح فرضية مثل هذه للحديث عن الشيعة والسنة داخل البيت الإسلامي مثلا، حيث يكون السنة هم من يؤمنون بالدولة الوطنية والوضع الراهن status quo، بينما يؤمن الشيعة بفكرة الطائفية وما فوق الدولة والعمل الثوري من أجلها؟ وكيف نفهم فكرة الخلافة عند السنة فيما سبق تاريخيا، وهل هناك فرق بين إسلام الدولة السنية الذي يركز على وحدة الدولة، وراديكالية الجماعات السنية المتطرفة، التي ما زالت تحلم بالخلافة؟ أم أن فقه الدولة الوطنية لم يتطور عند أي من الطائفتين؟ أعتقد أن نقل هذه الفرضية إلى فضاءات الإسلام السياسية وتاريخ بناء الدول، أمر محفوف بكثير من المخاطر رغم أهمية الحراك الفكري الذي قد تحققه هذه الفرضية المثيرة للجدل.
بالطبع داخل الخيمة المسيحية كانت هناك محاولات دائمة لإقحام العوامل الثقافية ومنها الدين، الذي تعتنقه مجموعة ما في فهم السلوك السياسي للجماعات والدول؛ إذ كتب ماكس فيبر كتابه الشهير «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» (The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism)، وهو كتاب نشره عالم الاجتماع الكبير عام 1905، أي منذ أكثر من قرن من الزمان والذي طرح فيه مقولته الشهيرة، التي تدعي أن أساس ظهور الرأسمالية في أوروبا هو الأخلاق البروتستانتية التي تعلي من قيمة العمل، طرح رآه المثقفون من الكاثوليك متحيزا ضدهم، ويعكس رؤية ماكس فيبر البروتستانتي ضد الطائفة الكاثوليكية داخل البيت المسيحي.
فكرة فيبر الآن يتبناها المؤلفان نيلسون وغوس من خلال تطبيقهما على السياسة لا على الاقتصاد وحده، وهي قراءة ثقافية لسلوك الدول تحاول التفسير من خلال عوامل آيديولوجية يكون الدين أحد أعمدتها. فتصاعد تيار اليمين الديني في بريطانيا مثلا، هو الذي أدى إلى خروجها من الاتحاد الأوروبي، فهل سيفعل الدين الشيء نفسه بفرنسا مع تصاعد تيار ماري لوبان؟
هذه القراءة الثقافية تفتح كوة جديدة من النور للبحث في الدوافع الثقافية التي أوصلتنا اليوم إلى ما يمكن تسميته الصراع على روح الاتحاد الأوروبي، وما يصاحبه أيضا من صراع على هوية أوروبا الثقافية.
ولكن تبقى الأسئلة الأكبر والخاصة بطبيعة التحديات التي خلقت جوا من البلبلة في عقل صناع السياسة اليوم. فمثلا تعود القادة العسكريون في السابق وخصوصا في أميركا وأوروبا على مواجهة تحديات محددة، مثل الاتحاد السوفياتي أيام الحرب الباردة، أو حتى المنافسة مع روسيا والصين اليوم رغم أنهما (أي روسيا والصين) في مستوى منافس حقيقي مع الولايات المتحدة حتى الآن، ولكن التعود على الصراعات التقليدية، ربما هو الذي أوصلنا إلى حالة الارتباك الحالية التي تبحث في الجذور الثقافية لتهديدات غير تقليدية مثل تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، وكل الجماعات الإرهابية المسلحة بتكنولوجيا العصر.
هذه المساحات الرمادية الغامضة في تفسير ما يحدث من حولنا مما يبدو وكأنه انهيار العالم، ربما هي التي تدفعنا إلى مثل هذه التفسيرات، أم أن هناك بالفعل تفسيرا ثقافيا لما يحدث يكون الدين أهم عناصره؟ هل ما حدث في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا من قبل وكذلك أميركا هو الذي دفعنا إلى هذا النوع من الأبحاث، أم أن هذه التهديدات غير التقليدية لا تفسير لها سوى الدين والثقافة؟
في مقابلة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مؤخرا مع شبكة «سي إن إن» لم يتردد في وصف الإرهاب بـ«الإسلامي»، وقال إنه «مسلم ويقول ذلك»، فهل هذه جرأة تستحق التقدير، أم أنه تفسير تفرضه تحديات المجتمع والدولة في مصر؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل هو إرهاب سني أم شيعي أم كلاهما؟
أم أن التفسير الثقافي وحده لظاهرة الإرهاب، هو تفسير ناقص يتجاهل الدوافع السياسية والاقتصادية للظاهرة؟
أتصور أن نقل هذا النوع من الحوار حول الدين ودوره في تماسك الدولة الوطنية أو تفكيكها، لهو أمر جدير بالتدبر، رغم أنه وحده لا يفسر لماذا تنهار الدول في محيطنا، ولا يفسر لماذا يفشل المسلمون في تكوين اتحاد أوسع، كما أنه لا يفسر تماسك بعض الدول الإسلامية وانهيار بعضها الآخر.
اللحظة العالمية التي نعيشها تطرح تحديات كبرى للباحثين والساسة لمعرفة أسباب حالة التوتر والسيولة في العلاقات الدولية اليوم، ولكن في عالمنا العربي من يتعرض لهذه الحوارات هم أقل الناس تأهيلا للاستمرار في نقاش منطقي مطول يأخذنا إلى نهاية منطقية. إنه شيء أشبه بعنوان رواية الأميركي دون داليليلو الموسومة «الضوضاء البيضاء» (white noise) وحتى تقل الضوضاء ويرتفع صوت العقل المدرب، نبقى في حالة ضبابية فكرية لا تأخذنا إلى تلك الجرأة الأوروبية في طرح الأسئلة الصعبة.