فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

الغرق الروسي في الصراع السوري

رغم كل الاتفاقات والتوافقات الأميركية - الروسية في القضية السورية وحولها، فإن ثمة خلافات وصراعات بين الطرفين، تصاعدت في الآونة الأخيرة، لا سيما في ضوء الحملات المتبادلة عقب الاتفاق الأميركي - الروسي حول الهدنة، وفي النقاشات الجارية في الأمم المتحدة، وهذا أحد مؤشرات الانغماس الروسي المتزايد في الصراع السوري، وقد بات قضية رئيسية في سياسة موسكو، وأحد أهم شواغلها على المستوى الدولي، لكنه، في الوقت ذاته، مؤشر لغرق روسي في الوحل السوري في ظل شتاء سوري يوشك على بدء فصل جديد وخطير من صراع على أبواب عامه السابع.
عندما بدأت الثورة السورية تطوراتها بداية عام 2011، كانت موسكو على هامش الأحداث تقريبًا. كان عدد الجنود الروس في سوريا لا يتعدى الأربعين جنديًا، يتمركزون في القاعدة البحرية بطرطوس على الساحل، وكانت السفارة الروسية في دمشق، رغم ضخامتها، لا تزيد في حضورها عن أي سفارة أخرى من سفارات الدول الكبرى في دمشق، وحتى في نشاطاتها، لم تشكل أي مصدر للريبة والتوجس أو القلق والخوف لدى السوريين، وهم يتظاهرون ويحتجون ضد نظام الأسد، بل المعارضة السورية لم تكن ترى في السفارة وما تمثله، إلا طرفًا يمكن أن يساعد في وقف ممارسات النظام والدفع نحو معالجة مقبولة للقضية السورية، بما للروس من إرث في العلاقات السوفياتية - السورية.
لقد تغيرت تلك الصورة في السنوات الست الماضية. بات الروس قوة عسكرية هائلة في سوريا، فإضافة إلى القاعدة البحرية في طرطوس، التي تغيرت بصورة كلية في حجمها ووظيفتها، صار للروس وجود بحري قوي قرب السواحل السورية قوامه ست سفن حربية وثلاث أو أربع سفن تموين، حسب قول وزير الدفاع سيرغي شويغو الذي أعلن قرب إرسال حاملة طائرات «أميرال كوزينتسوف» إلى المتوسط لتعزيز قدرات قواته في سوريا، التي كانت شملت الاستعانة في وقت سابق بأسطول بحر البلطيق، لشن هجمات صاروخية على بعض مواقع المعارضة السورية عقب التدخل العسكري، العام الماضي، واستخدمت بعدها قواعدها الجوية في إيران لضرب أهداف في سوريا.
وتغير عدد الجنود الروس ووظيفتهم وأماكن انتشارهم في سوريا. ومن نحو أربعين في قاعدة طرطوس، يمارسون مهمات محددة، صار عدد الجنود بالآلاف، وأقل تقديرات تؤكد وجود نحو أربعة آلاف جندي من مختلف صنوف القوات، يضافون إلى خبراء في الاختصاصات العسكرية والأمنية والتقنية، وباستثناء جنود البحرية الروسية، فإن هناك جنودًا من سلاح الجو في قاعدة حميميم وفي مطار باسل الأسد قرب اللاذقية، وتم الكشف أخيرا عن وصول ثلاثة آلاف جندي روسي إلى ريف حلب للقتال إلى جانب قوات النظام، مما يكشف مزيدًا من الغرق الروسي في حرب المواجهات المباشرة، بعد أن كان الروس يعتقدون أن حربهم ستكون مجرد عمليات جوية تقوم بها القاذفات وطائرات الاستطلاع، قبل أن يستعملوا الأسلحة الصاروخية لضرب مناطق المعارضة وقواتها.
الأهم مما سبق، هو الانغماس الروسي السياسي في الحرب، وتعبيره المحلي في سوريا تحول السفارة الروسية بدمشق إلى قلعة عسكرية - أمنية، تتشابه مع المراكز العسكرية - الأمنية لنظام الأسد من حيث حواجز الحماية ومئات الحراس المسلحين، وزيادة الكادر الوظيفي المتعدد الاختصاصات فيها، ويتكامل معها دور سياسي، تقوم به القاعدة الجوية في حميميم، حيث تتواصل مع بعض أطراف «المعارضة» في الداخل، وتقود تسويات في بعض المناطق بين النظام وتشكيلات من المعارضة المسلحة، لتتكامل مع دور الدبلوماسية الروسية بإدارة وزير الخارجية سيرغي لافروف ومعاونيه، لا سيما بغدانوف، المربوطين مباشرة بالرئيس الروسي بوتين.
ويسير خط الدبلوماسية الروسي في الحرب السورية في مسارين متناقضين في الشكل ومتكاملين في الوظيفة. فمن جهة تتولى روسيا مهمة إدارة فريق حلفائها المكون أساسًا من إيران ونظام الأسد، وتنطق باسمه وتدير وتدعم عملياته في سوريا، و«تتنطح» من جهة ثانية لمشاركة الولايات المتحدة في الجهود الدولية لمعالجة القضية السورية وتداعياتها، وطبقًا للوقائع، فإن روسيا تسعى لتوظيف تلك الجهود في خدمة أهدافها وتحالفها السوري - الإيراني، وهو ما يبدو واضحًا في موقفها من المعارضة السورية، التي تصفها بـ«الإرهاب» و«التطرف»، وفي عملها الدؤوب للحفاظ على نظام الأسد وإعادة تسويقه لدى المجتمع الدولي بحجة الشرعية ومحاربة الإرهاب.
وروسيا في سوريا في مسارها إلى أعماق الحرب السورية في ظل تواطؤ وصمت دوليين، وانصياع إقليمي، لن تتأخر في توظيف مزيد من قدراتها العسكرية والمادية من أجل كسب الحرب، وهي في هذا الجانب قد تتجاهل التجربة السوفياتية في أفغانستان، أو أن قادتها يعتقدون أنهم يتجاوزن تلك التجربة، التي كانت بين أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعض تلك الاعتقادات صحيح، لأن حقائق الصراع في سوريا وما يحيط بها تتجاوز تجربة أفغانستان في ظروفها وحيثياتها؛ فسوريا غير أفغانستان، والسوريون ليسوا أفغانًا، وقضيتهم مختلفة بصورة جذرية، وتداعياتها الإقليمية والدولية مختلفة، والأهم هو حجم التدخلات الإقليمية والدولية في القضية السورية، وكلها لن تصبّ في مصلحة الروس في كسب الحرب السورية، بل إلى خسارة، تزيد فاتورتها كلما أوغل الروس في أعماق الحرب السورية.