صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

الحقيقة.. الصين أصبحت رائدة القرن الحادي والعشرين!

أنْ تُحقِّقَ الصين خلال قرابة خمسة وثلاثين عامًا كل هذه النجاحات الهائلة، وأنْ تصبح واحدًا من أهم المراكز الاقتصادية الريادية في العالم، وأنْ يترافق هذا كله مع مكانة سياسية جعلت هذا البلد، الذي لم يصبح عضوًا في الأمم المتحدة، ولم تعترف به واشنطن وتقيم علاقات دبلوماسية معه إلا في عقد سبعينات القرن الماضي بعدما كانت البداية من خلال مباراة ودية للعبة كرة الطاولة الـ«بينغ بونغ»، أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، وأحد مجموعة العشرين التي عقدت قمتها قبل أيام في «هانغتشو» في الشرق، وإحدى الدول المؤسسة لتكتل الـ«بريكس» الذي يضمها وإلى جانبها روسيا الاتحادية والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا.
كان زعيم الصين التاريخي ماو تسي تونغ، الذي لا تزال صوره تُرفع في مرافق ساحة «تيان آن من» وفي المدينة المحرمة في بكين حتى بعد كل هذه التحولات التي استجدت بعد وفاته، قد أطلق تلك الحكمة الشهيرة القائلة إن «مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة»، وحقيقة ثبت أن هذه الحكمة لا تنطبق على تلك المسيرة العسكرية التي كانت نهايتها هزيمة قائد الـ«كومنتاغ» الجنرال شيانغ كاي شيك، الذي اضطر تحت ضغط الجيش الأحمر إلى اللجوء إلى جزيرة فرموزا «تايوان» التي أصبحت دولة مستقلة تحت حماية الولايات المتحدة، بل تنطبق أيضًا على المسيرة الاقتصادية والسياسية لجمهورية الصين الشعبية التي انطلقت من واقع «حرب الأفيون» (1838 - 1842) المزري، واستطاعت بعد نحو خمسة وثلاثين عامًا من بداية «عملية التحديث»، التي قادها المصلح الكبير دينغ سياو بينغ منذ عام 1978 وحتى عام 1992 أن تصبح واحدة من أهم المراكز الريادية الاقتصادية في العالم، وأن تتبوأ كل هذه المكانة الطليعية المرموقة بين الدول العظمى الأساسية والرئيسية في الكرة الأرضية.
ويسجل لزعيم الصين التاريخي ماو تسي تونغ، الذي حاول الغرب (الإمبريالي) تشويهه حيًا وميتًا، وأسهم الاتحاد السوفياتي المنافس الذي كان ولا تزال روسيا فلاديمير بوتين تسير على نهجه يصر على معاملة هذا البلد الكبير الذي تجاوز عدد شعبه من قومية الـ«هانو» وحدها المليار ومائتي مليون نسمة على أنه الشقيق الأصغر، أنه ترك فرموزا وشأنها لحسابات الزمن وحسابات المستقبل، وأنه لم يورط بلده الذي كان لا يزال في بدايات طريق طويل في حرب مدمرة مع الولايات المتحدة، وأنه أيضًا تصرف بالاعتدال ذاته مع مشكلة «هونغ كونغ» التي بقيت مستعمرة بريطانية حتى عام 1997 ولم يجر ضمها للبلد الأم حتى الآن، وحيث تُركت تتمتع باستقلالية خاصة وبنظام مختلف كمركز اقتصادي جاذب للاستثمارات التي بلغت في عام 2013 وحده مائتين وأربعة وتسعين مليار دولار.. وهذا ينطبق أيضًا على «ماكاو» التي كانت مستعمرة برتغالية ولم تتحول إلى منطقة إدارية - اقتصادية تابعة لجمهورية الصين الشعبية إلا في عام 1999.
إن هذا هو واقع الحال الذي أوصل الصين من حروب الأفيون الشهيرة، ومن استعمار ياباني وبريطاني وبرتغالي بقي في فرموزا وهونغ كونغ وماكاو حتى نهايات القرن الماضي، القرن العشرين، وهنا فإنه لا يجوز القبول بكل عمليات التشويه التي مارسها الغرب بإعلامه المتجني ضد ماو تسي تونغ الذي لا شك في أنه ارتكب بعض الأخطاء الكبيرة وبخاصة بإطلاقه «الثورة الثقافية» البائسة فعلاً من عام 1966 وإلى عام 1976 التي أصبحت تحت سيطرة ما سمي «عصابة الأربعة» بقيادة زوجته المتنفذة جيانغ تشينغ ومشاركة كل من المقربين منها وأصدقائها: تشانغ تشون تشياو وياوون يوان ووانغ هونغ ون.
ولعل من حسن طالع هذا البلد العظيم أن دينغ سياو بينغ، الذي قاد الصين من عام 1978إلى عام 1992 قد برز في تلك اللحظة التاريخية المناسبة الحاسمة وقبل أن تزيحه «عصابة الأربعة» بثورتها الثقافية كما أزاحت كثيرين من أمثاله من أمامها، فكان أول ما فعله هو اللجوء لتصحيح المسار وهو تبني: «اقتصاد السوق» والمباشرة بالانتقال بالمجتمع الصيني، مع الحفاظ على الحزب القائد والجيش القوي والمقتدر، من مجتمع زراعي متخلف إلى مجتمع صناعي متقدم تقوده مجموعة حاكمة معظمها من كفاءات الـ«تكنوقراط» ومن أكثر السياسيين نبوغًا في العالم بأسره.
لقد حدد هذا المصطلح الكبير نصف قرن من الأعوام لاستكمال عملية التحديث هذه، وكانت البداية بعد تطهير الواقع الداخلي، وبخاصة الحزب والدولة من بقايا تأثيرات «عصابة الأربعة» و«الثورة الثقافية»، انفتاحًا بلا مخاوف ولا تردد على الغرب الذي كان قطع أشواطًا طويلة على طريق التقدم والمسيرة الحضارية، وقد اتخذ هذا الانفتاح بصورة رئيسية طابع البعثات المتلاحقة إلى الولايات المتحدة والدول الغربية كلها بلا أي استثناء، وكان التركيز الأساسي على الهندسة والاقتصاد وطرق الإدارة وعلى السياسة أيضًا، وكانت النتائج السريعة هي ما تم التنويه إليه آنفًا وهو أنَّ العالم بأسره بات يشهد للسياسيين الصينيين بأنهم الأكثر نبوغًا وإدراكًا في الكرة الأرضية كلها.
ويقينًا أنه لا يوجد في الإشارة إلى هذه الحقيقة ولو الحد الأدنى من المبالغة أو التهويل، ولعل ما يثبت هذا أنه على من كان زار الصين، هذا البلد العظيم، في سبعينات القرن الماضي أن يزورها الآن ليرى بأم عينه كيف أن بكين أصبحت بمستوى نيويورك وأفضل، وأن شنغهاي غدت ببرجها الشاهق الجميل وبفنادقها وشوارعها.. وأهلها بمستوى باريس التي كانت ولا تزال تعتبر بمثابة الثقافة والحضارة الكونية.
الآن ونقولها بالفم الملآن وبقناعة وثقة راسخة أن الصين، الصاعدة كسهم منطلق من قوس مشدودة الوتر، باتت عنوانًا للتقدم الإنساني في القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة وأنها، بينما بقي الروس ينشغلون بعد رحيل ليونيد بريجنيف أي في عهد ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين.. وأيضًا في عهد هذا الستاليني الصاعد فلاديمير بوتين، ينشغلون بالحرب الباردة وصراع المعسكرات والبحث عن القواعد العسكرية والنفوذ الإقليمي وعلى حساب التنمية والعلاقات الاقتصادية مع دول العالم كلها بلا استثناء، واصلت، أي الصين، سياسة فتح الأبواب على مصاريعها وعلى أساس المصالح المشتركة ومن دون أي شكل من أشكال نزعات الهيمنة مع دول وشعوب العالم كلها.. ومن بينها الدول والشعوب العربية التي أصبحت طرق مستثمريها وتجارها سالكة بازدحام وآمنة بكل سلامة مع بكين وشنغهاي.
إنه معروف أن الصين، التي انتقلت هذه النقلة النوعية الهائلة، بدءًا بنهايات عقد سبعينات القرن الماضي، وحققت كل هذه الإنجازات النوعية الكبيرة التي جعلتها بنجاحاتها العظيمة وعلى المستويات كافة تستحق أن تعتبر «رائدة» هذا القرن الجديد، أي القرن الحادي والعشرين، كانت قد ساندت كل حركات التحرر في العالم ومن بينها الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية، وكانت قد دعمت كوريا الشمالية خلال الحرب الكورية، ودعمت فيتنام الشمالية ضد الولايات المتحدة وضد سايغون والجنرال كاوكي لكنها بعد انخراطها بعملية التحديث المشار إليها آنفًا قد كرست كل جهودها لاستكمال هذه العملية، وتخلت نهائيًا عن أي نزعة ستالينية، وعن السعي لأي نفوذ إقليمي، لكن من دون أي شكل من أشكال التقوقع والانعزالية أو الانغلاق على الذات.