أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

إلى الشرق.. مقبلين غير مدبرين

باتجاه عقارب الساعة، اتجهت المصالح السعودية جهة الشرق، إلى مجتمعات نفضت عن نفسها أعباء النزاعات والصدامات، وذهبت عميقًا في بناء قاعدة ضخمة من التحول الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية وتداعياتها، فلم تختر لنفسها أن تكون جزءًا رئيسيًا مؤثرًا في الحرب الباردة بين القطبين؛ واشنطن وموسكو، سوى ما يكفل حماية مصالحها دون التورط المباشر.
سألت البروفسور يوشياكي ناكانو، المتخصص في الهندسة الكيميائية والطاقة المتجددة في جامعة طوكيو: كيف تعاملت الجامعة مع فترة ما بعد كارثة هيروشيما وناغازاكي؟ هل تبدلت السياسة الأكاديمية؟ هل مست مآسي الحرب وجدانهم وحيّدتهم لاتخاذ طريق مختلف؟ أجابني أن الجامعة رسخت ميزة الاستقلالية، مما أعطاها مساحة أوسع للتخطيط واتخاذ القرارات الصائبة، وأصبحت أكثر تركيزًا على علوم الهندسة والبرمجيات والطاقة المتجددة، وكذلك العلوم الإنسانية التي رفعت كفاءة الخريجين في التعامل مع الدولة الجديدة الناهضة من تحت ركام الغبار النووي. وكان الحديث لا يقل متعة وعجبًا مع رئيس معهد ميتسوبيشي للأبحاث، البروفسور هيروشي كومياما، رئيس جامعة طوكيو سابقًا الذي كان عضوًا في المجلس الاستشاري لجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في المملكة، فهو استعرض لنا كيف خلّفت الحرب كثيرًا من الأوبئة والأمراض النفسية والجسمانية سميت بأسماء مسبباتها كمتلازمة التلوث بالزئبق والكادميوم، وأثرت بشكل كبير على الصحة العامة، مما عجّل بإنشاء كثير من المراكز البحثية، منها هذا المركز الذي أسس في عام 1970، ويمثل حاضنة فكرية لتقديم خدمات التقييم والاستشارات للحكومة لوضع تنظيمات التحكم في نسب تلوث الهواء والماء، وتقديم تكنولوجيا حديثة للحد من هذه الأضرار. يقول البروفسور فيما يخص منطقة الخليج، إن التطور الاقتصادي المطرد لدول الخليج يتزامن مع ارتفاع ملموس في التلوث البيئي، مما يستدعي استعانتها بالطاقة البديلة النظيفة كأشعة الشمس وطاقة الرياح والطاقة النووية، دون أن تترك هذه الوسائل الحديثة أثرًا سلبيًا على النمو الاقتصادي، بل ستمثل رافدًا مهمًا له.
الصين كذلك، البلد الاقتصادي العظيم، لا يعنيه تعقيدات منطقتنا السياسية أو الآيديولوجية؛ هو مجتمع نشأ وكبر ووصل إلى حد العملقة مع كبار الدول العظمى في الغرب، بسبب نجاحاتهم الاقتصادية، وليس لتفوقهم في الحروب وحشر أنوفهم في منطقة الشرق الأوسط التي باتت كالوحل، الداخل إليها مفقود والخارج مولود. وبسبب هذه الرؤية المادية الصرفة، تمثل دول الشرق الصناعية ملاذًا واسعًا وبيئة آمنة للعمل الاستثماري ونمو رأس المال. الشرق لا يزال بحاجة إلى النفط السعودي، ونحن بحاجة لتنويع شركائنا في التنمية، واستقرار أسواق آسيا هو استقرار للاقتصاد العالمي، فاليوم تفتتح بورصتا نيويورك ولندن على شاشة السوق الصينية التي تحجب بضخامتها أشعة الشمس. وحتى داخل الولايات المتحدة، لا تخطئ العين تزايد أعداد المركبات اليابانية في الشوارع، داخل أكبر سوق لصناعة السيارات في العالم، وداخل أكبر أسواق السلع المعروفة «وول مارت» المنتشرة في أنحاء الولايات الأميركية، تقلب البضائع تجدها صينية الصنع. العالم اليوم يموج وفق عجلة الاقتصاد، لا السياسة ولا التحالفات السياسية ولا الآيديولوجيات.
كان من أبرز الأحداث المثيرة هذا الأسبوع الذي تنعقد فيه قمة العشرين في مدينة هانغتشو الصينية، ما رشح من أخبار حول الإساءة التي تعرض لها الرئيس الأميركي باراك أوباما بعد وصول طائرته إلى المدينة، وتابعت خلال وسائل الإعلام الاجتماعي كيف هتف الإخوة العرب، سكان المنطقة الشرق أوسطية للصينيين، الذين «لقنوا أوباما درسًا». لكن المفارقة أن الموقف بتفاصيله المزعجة أو المخالفة للبروتوكول الدبلوماسي، لم يثنِ الزعماء عن استكمال جدول أعمالهم، وخلال هذا الموقف الذي عكر مزاج الرئيس ومرافقيه، كان رجال الأعمال الأميركيون والصينيون يحتسون الشاي الأخضر معًا، كأصدقاء مقربين، دون الاكتراث لما حصل في المطار. بالنهاية، القوة الاقتصادية هي من تحمي كبرياء وكرامة الدول ورؤساءها، لا العلاقات الشخصية ولا التاريخ.
وحتى يمكننا فهم ما يعنيه هذا الاستنتاج، أمامنا مثال واضح في إيران، دولة تمتلك من الموارد الطبيعية والبشرية ما يجعلها «صين» الشرق الأوسط، لكنها اليوم ترزح تحت وطأة الضيق الاقتصادي، وأكثر من 40 في المائة من سكانها يعانون الفاقة، بمقابل رجال دين أثروا حساباتهم البنكية في الداخل والخارج بالمتاجرة بعقيدة البسطاء، واستشرى الفساد حتى أصبح عصيًا على الحلحلة والحل. كل الأحلام الإيرانية بالتوسع والهيمنة الجغرافية خارج حدودها تحولت إلى عبء اقتصادي على ظهرها. فماذا يعني بالنسبة للمواطن الإيراني أن طهران تتحكم في مفاصل الدولة العراقية، أو تعين نظام بشار الأسد الآيل للسقوط، أو تدعم المتمردين في اليمن، أو تثير الشغب في البحرين؟ بالنهاية إدارة الحكم هي من ترفع أو تهوي بالدول. ولذلك ليس عيبًا أو خطأ أن تتبدل الأحلام والرؤى بتبدل الزمان والأحوال، في وقت لم تعد فيه قيمة الدول وقوتها بالتمدد الأفقي، بل بالتحجيم والبناء العمودي في عمق التنمية والتحولات الاقتصادية التي تحكم العالم.
من حسن حظ السعودية أن فرصها الاقتصادية كبيرة في الشرق، وكل من التقينا بهم في المراكز البحثية في اليابان والصين، ابتدرونا بعرض مساهماتهم لتحقيق رؤية المملكة 2030، التي، كما قالوا، تذكرهم بأنفسهم في سبعينات القرن الماضي، حينما بدأوا التخطيط للمستقبل الذي يعيشون فيه اليوم وبوأهم الصفوف الأولى أمام كبريات الدول الاقتصادية. لكن من سوء حظ المملكة أنها تعيش داخل منطقة مضطربة، التجارة المنتعشة فيها هي تجارة السلاح والبشر، وهذا الواقع هو تقريبًا التحدي الوحيد الذي تواجهه الرياض، وعليها أن تقاوم محاولات الدول والجماعات المتطرفة وتجار الحروب لتعطيلها أو إبطاء تحقيق رؤيتها.
[email protected]