راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

حسكة الفيدرالية في بلعوم الأسد وإردوغان!

تسارع الأحداث في شمال سوريا خلط الأوراق بشدة إلى درجة بدا معها الأطراف المتصارعون والدول الإقليمية المنغمسة في الصراع والأطراف، وكأنهم بيادق فوق رقعة الشطرنج الدموي الممتد من شمال غربي سوريا إلى شمال شرقي العراق، ورغم كل مظاهر التناقض بين أميركا وروسيا، أوحت التطورات الأخيرة بوجود نوع من الاتفاق بينهما تحت الطاولة، رغم قول جون كيري يوم الثلاثاء إنه لم يتم التوصل بعد إلى تفاهم مع الروس حول سوريا!
منذ إعلان النظام إحكام الحصار على الأحياء الشرقية من حلب التي تسيطر عليها المعارضة، كرّت سبحة المفاجآت الثقيلة في شمال سوريا؛ الهجوم المضاد الذي شنته المعارضة كسر الحصار سريعًا، وأدى إلى السيطرة على أحياء غربية كانت في يد النظام وحلفائه الإيرانيين.
انقلاب الوضع الميداني في حلب ذات الأهمية الاستراتيجية، أدى إلى الكشف عن استخدم القاذفات الروسية قاعدة همدان الإيرانية، الأمر الذي أثار مشكلة داخلية في طهران، وتسبب في تعكير التفاهم بين روسيا وإيران، لكنها تبقى عاصفة في فنجان العلاقات بين الطرفين، وخصوصًا بعدما تبيّن أن القاذفات الروسية بدأت منذ عام بالهبوط في همدان وغيرها من المطارات الإيرانية في طريقها لقصف أهداف في سوريا.
بعيدًا عن الجدل حول هذا الموضوع، فإن ما أعلنه الأميرال علي شمخاني المكلف التنسيق بين إيران وروسيا والنظام السوري، يكشف حقيقة الوضع الميداني المتراجع للنظام وحلفائه في حلب، فقد قال للتلفزيون الإيراني إن الطيران الروسي تدخل في حلب استجابة لطلب مستشارين إيرانيين في الميدان، وهو ما يذكّر بما حصل في العام الماضي، عندما بدأ التدخل العسكري الروسي بعدما كانت اللاذقية مهددة بالانهيار، وهو ما كشفه فلاديمير بوتين صراحة.
انتهت المفاجأة في حلب لتبدأ المفاجأة الثانية في منبج عندما طردت «وحدات حماية الشعب الكردي» التي كانت تقاتل مع مجموعة الدفاع الوطني، «داعش»، وسيطرت على المدينة بدعم أميركي جادّ هذه المرة، ومع سقوط منبج بدأت معركة الحسكة لكن بين النظام والأكراد الذين قاتلوا معًا في منبج، وذلك على خلفية حسابات النظام الذي أراد أولاً توجيه تمريرة إلى رجب طيب إردوغان العائد من قمته مع بوتين بلهجة تصالحية مع الأسد، وثانيًا فرملة دينامية الأكراد القتالية التي ترعاها أميركا من كوباني إلى الحسكة.
المفاجأة الثالثة جاءت بعد أيام من الحسكة، التي سريعًا ستتحول «حسكة» في بلعوم الأسد وإردوغان، وتضاعف القلق الإيراني من طموحات الأكراد الذين تشنّ هجمات ضدهم على حدودها الشمالية المتصلة بجبال قنديل العراقية، في الحسكة نشب قتال عنيف بين النظام و«وحدات حماية الشعب الكردي» التي تقدمت للسيطرة على المدينة فأرسل الأسد الطيران لقصفها، لكن الأميركيين وجهوا إليه إنذارًا قاسيًا عندما أعلن بيتر كوك المتحدث باسم البنتاغون أن واشنطن تنصح نظام الأسد بالابتعاد عن مناطق حلفائها.
المفاجأة الرابعة بدأت مع تحليق الطيران الأميركي في سماء الحسكة، ومع مسارعة موسكو إلى إفهام الأسد أن عليه أن يبعد طيرانه ولا يطلق طلقة واحدة على الأكراد، ثم بدأت السعي لوقف إطلاق النار وتوصلت إليه فجر الثلاثاء، ولكن عبر المزيد من النتائج المفاجئة، كانسحاب قوات النظام من الحسكة وتسليمها إلى «الأسايش»، أي قوى الأمن الداخلي الكردية، والطريقة التي اعتمدها الروس في ترتيب وإعلان وقف النار.
حصل الاتفاق في قاعدة حميميم، أي على «أرض» روسية، حيث تم استدعاء ممثلين عن النظام والأكراد، الذين فرضوا شروطهم، ولم يعلن الروس الاتفاق، بل اختاروا أن يأتي الإعلان من المكتب الإعلامي التابع للإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا، ومن التلفزيون السوري، بما شكّل اعترافًا صريحًا بسلطة الإدارة الذاتية الكردية التي سبق أن سمحوا لها بفتح مكتب تمثيلي في موسكو.
في أقل من 24 ساعة، جاءت المفاجأة الخامسة؛ كانت تركيا تراقب بهلع دينامية الاختراق الكردي على طول حدودها الجنوبية، الذي بدا أنه يتمّ وسط تشجيع ضمني روسي وأميركي، بما يعني أن كابوس أنقرة الكردي يتنامى من محافظة الحسكة مرورًا بمدينة عين العرب، وربما وصولاً إلى عفرين غربًا، من خلال العبور إلى الضفة الغربية من الفرات بعد السيطرة على منبج.
كان الخوف من أن يندفع الأكراد إلى جرابلس الملاصقة لحدود تركيا لتحريرها، ولهذا أعلن رجب طيب إردوغان مع استقباله جو بايدن في زيارة تصالحية، على خلفية الجدل المتصل بتسليم فتح الله غولن، عن عملية سمّاها «درع الفرات»، ودفع بعدد من الفصائل السورية مدعومة بالمدرعات والمدفعية التركية وكذلك من الطيران الأميركي، وتمكنت من تحرير جرابلس في ساعات.
هذا الشريط من المفاجآت في شمال سوريا، رافقه شريط من التناقض في المواقف الأميركية، وكذلك المواقف الروسية، حيال التطورات من حلب إلى عملية «درع الفرات»، داخل سوريا بعد مدة طويلة من الخلاف مع واشنطن على مسألة «المنطقة الآمنة»، التي تبدو جرابلس الآن وكأنها نواتها، وهو ما يطرح سلسلة من التساؤلات عما يدور تحت الطاولات الروسية والأميركية بشأن مستقبل سوريا:
- كيف تحذّر واشنطن الأسد من قصف حلفائها الأكراد في الحسكة وبعد 24 ساعة يهدد جو بايدن أمام إردوغان، هؤلاء الحلفاء من مغبة العبور إلى غرب نهر الفرات، هل فقط لأن واشنطن لا تريد لحليفها التركي أن ينام طويلاً في أحضان بوتين؟
- كيف تقوم موسكو بترتيب وقف لإطلاق النار في الحسكة تجاوز (لا، بل همّش شكلاً ومضمونًا) الشرعية السورية وشكّل انتصارًا عسكريًا وسياسيًا للأكراد على حليفها الأسد؟
- لماذا ساعدت واشنطن المعارضة على كسر الحصار الذي فرضه النظام مدعومًا بالإيرانيين على أحياء حلب الشرقية، ولماذا فرمل الطيران الروسي عبر همدان الإيرانية دينامية الهجوم المعاكس الذي شنته المعارضة؟
- هل يملك النظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون أي وهم باستحالة استعادة السيطرة على سوريا، في حين تدرك واشنطن وموسكو أن هذا سيكلّف نصف مليون قتيل جديد؟
- هل يريد الإيرانيون حربًا مفتوحة على مداها لسنوات أخرى مع يقينهم التام باستحالة استعادة الأسد سلطته على كل سوريا، أم أنهم يقبلون بجائزة ترضية تبقي حليفهم الأسد حاكمًا على الساحل في سوريا مفدرلة؟
- هل يملك إردوغان أي وهم بأنه من المستحيل إعادة الجن الكردي إلى القمقم، حين تعرف موسكو وواشنطن جيدًا، وتعملان جيدًا، ومعًا، ليحصل هذا الجن على إدارة ذاتية تحت سقف النظام الفيدرالي، الذي لا يعني بالضرورة التقسيم وقيام الدولة الكردية بما يشرع الأبواب على تمزيق خرائط المنطقة؟
- هل هناك من مخرج لهذا المأزق المتمادي الذي يتخبط فيه الجميع غير الفيدرالية التي يتفق عليها الأميركيون والروس، منذ زمن ويعملون على جعلها مطلبًا ومخرجًا للجميع؟