سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«يا ليل يا عين»

تدخل إلى مكتبة من أجل أن تشتري ماذا؟ طبعًا كتابًا أو لوحة أو، في هذه الأيام، أسطوانة غنائية. أنا اشتريت قبل أيام قطعة من الحلوى عنوانها «يا ليل، يا عين»، مؤلف من 600 صفحة قليلها نصوص بالفرنسية تشبه عزف الأوتار في ليالي النيل أيام كانت للنيل لياليه، ورسوم كثيرة تشبه عبث الأطفال في حدائق الكبار ورياض الفناء. المؤسف الوحيد في هذا القالب من الألوان والتواريخ والرومانسيات والمآسي وحكايات الليل والنهار وأضواء الأضواء، أنه بالفرنسية، أي أن المُمَتعين باستعادة تلك الحقبة الجميلة، سوف يكونون محدودي العدد.
المؤلفة لَميا زيادة، هي أيضًا الرسامة المبدعة قاهرة العشرينات، ليس العالم الذي عرفته هذه الفنانة الصبية. ومعظمنا لم يعرفها إلا بالقراءة والسمع وليالي زمان. غير أن لميا زيادة تُوَلّف أضواء الحقبة وأسماء أعلامها كمن يُخرج فيلمًا وثائقيًا ترافقه من البعيد موسيقى الصنوج وإغواءات البُزق. قاهرة أوائل القرن الماضي ستلمع فيها وجوه النساء للمرة الأولى. وعلى نحو قدري عجيب سوف تأتي أم كلثوم من طماي الزهايرة، ابنة شيخ متديّن لا يكفّ عن ترديد الأناشيد. ومن طرابلس في لبنان، سوف تصل فتاة يتيمة الأم في الرابعة عشرة من العمر تدعى فاطمة اليوسف، لتصبح أهم ممثلة مسرحية في المدينة التي بدأت تسمح للتو للنساء بالظهور على الخشبة. ومن سوريا، سوف تصل بديعة مصابني ومعها أمها بعدما طردها أشقاؤها، إذ اعتبروا ولادتها لعنة على العائلة. وبعد رحلة في العذاب، أصبحت أضواء الليل في شارع عماد الدين تُضاء تحت اسم بديعة. وفي هذه المرحلة وصلت من بيروت عائلة الأمير فهد الأطرش، أحد أسياد جبل الدروز. وكان فهد موظفًا رفيعًا في مدينة إزمير التركية، غير أن عائلته اضطرت إلى العودة بعدما نكّل العثمانيون بالمدينة، وخصوصًا مؤيدي الثورة العربية آل الأطرش. وكانت العائلة التي فقدت معظم ما تملك، مؤلفة يومها من الابن البكر فؤاد، وشقيقه فريد، والمولودة الجديدة آمال. سنوات قليلة ويلمع اسم أسمهان في سماء العرب، وتُجلي ريشة فريد على أوتار العرب. وتختلط في ربوع القاهرة أصوات وألحان وعبقريات الشيوخ والفنانين والمنشدين والحناجر التي ما مِثلها في الأزمان شيء.
تلتقط لميا زيادة رحيق مصر مثل صائد فراشات مولع بالألوان. وترسم على طريقة الفن الساذج الجميل تفاصيل ملأت جدران القاهرة في تلك الأيام، وملأت أيضًا صدور الصحف، العمائم والطرابيش والحجابات، وملصقات الأفلام، والوجوه التي تحولت إلى معالم من محمد عبد الوهاب إلى فريد الأطرش، بل حتى إلى طلعت حرب وطربوشه الشهير الذي سيصبح علامة الازدهار الاقتصادي في تاريخ مصر الجميلة. يشبه «يا ليل يا عين» «ألبوم» صور عائليًا، وأحيانًا ألبوم صور لمتحف وطني، وأحيانًا مجرد مجموعة لأوراق من التاريخ تهبّ من وراء النسيان عامًا بعد عام، مذكرة بزمن المصابيح الخافتة والأضواء الساطعة. ولا تبقى لميا زيادة في جولتها على عربة الطرب والغناء وبيع الحلوى وذَر الأحلام على جانبي الطريق، مرة ملفوفة بموال أو موشّح، أو تقاسيم صوتها مثل صداها باقٍ في أعماق الأفئدة، بل تأخذنا أيضًا إلى بيروت ودمشق والقدس، دائمًا برفقة ريشتها البسيطة والجميلة. وختامًا، آه يا ليل - آه يا عين.