إميل أمين
كاتب مصري
TT

هل تضحى سوريا «كوبا الشرق الأوسط»؟

هل الشرق الأوسط مهدد بأن يضحى موقعًا وموضعًا لمواجهة نووية سورية - أميركية تعيد التذكير بما جرى في أوائل ستينات القرن الماضي في كوبا على نحو خاص، بعد محاولة الاتحاد السوفياتي السابق زرع صواريخ ذات رؤوس نووية في الخلفية الجغرافية للأراضي الأميركية؟
يبدو أن الأزمة السورية تتطور لتأخذ بعدًا مقلقًا للغاية، كأنه لا يكفي الدماء التي أريقت والآمنين الذين هجروا، والمذلة التاريخية للشعب السوري طوال السنوات الخمس الماضية، فها هي روسيا تفتح فصلاً جديدًا من تلك المأساة التي تتجلى إرهاصاتها في الآفاق.
الأنباء الواردة في بلاد القياصرة تفيد بأن قاعدة «حميميم» الجوية في ريف دمشق، تتحول الآن إلى قاعدة استراتيجية روسية، ويجري العمل على قدم وساق لتهيئتها، لاستقبال قاذفات استراتيجية روسية ثقيلة قادرة على حمل قنابل نووية.
يتساءل المراقب المحقق والمدقق للمشهد السوري ولتوجهات القيادة الروسية تحديدًا.. هل هذا هو الخيار شمشون لدى بوتين، ردًا على تحركات حلف الأطلسي بالقرب من حدود بلاده؟ وإن كان لبوتين ولروسيا مصالح استراتيجية في نقل المعركة القطبية خارج أراضي الروس التاريخية، فأي مصلحة للطرف السوري في جعل سوريا قاعدة نووية روسية، لا سيما أن الرد الأميركي حال صدقت تلك القراءات لن يتأخر طويلاً؟
من الواضح أننا أمام الفصل الأول من فصول الاتفاقية الروسية - السورية، وهو فصل دموي وكارثي يبدأ بنشر مجموعة دائمة من القوات الجوية والفضائية الروسية، ولا أحد يجزم ماذا بعد.
يؤكد فرانتس كلينتسيفيتش، النائب الأول لرئيس مجلس الاتحاد الروسي لشؤون الدفاع والأمن، أن موسكو لن تنشر أسلحة نووية وقاذفات ثقيلة في القاعدة بصورة دائمة، باعتبار أن ذلك سيتعارض مع الاتفاقات الدولية، ويثير انزعاجًا قويًا لا مفر منه، غير أن السؤال؛ ما الفرق بين الانتشار المؤقت والانتشار الدائم؟
المسألة في حقيقتها تلاعب بالكلمات، إذ يمكن لروسيا أن تغير طواقم طائراتها، بين الحين والآخر، غير أنه تبقى هناك وفي كل الأحوال تهديدات نووية، من خلال أسلحة محمولة جوًا، أو طائرة، أو عائمة في البحر، في تحايل واضح وفاضح لمعاهدات حظر الانتشار النووي.
المشهد الروسي الأخير في سوريا يتجاوز بمراحل المبررات التي قدمتها للعالم للتدخل العسكري في سوريا، ذلك أنها كثيرًا وطويلاً تحدثت عن أنه في حال عدم اتخاذ الإجراءات الضرورية، سيصل خطر الإرهاب الهائل لأراضيها أيضًا.
والمتابع لتصريحات بوتين وبقية المسؤولين الروس يرى أن هناك خطًا إعلاميًا وإعلانيًا مشتركًا يهاجم الغرب الذي لا يسعى لمواجهة الإرهاب، وعليه، فإن روسيا تعمل على تعزيز العلاقات مع اللاعبين الإقليميين، وتحديدًا مع سوريا وإيران والعراق.
هذا الحديث في جانب كبير مردود عليه، فالجميع وإن وافقوا على حشد الجهود لمواجهة «داعش» والقضاء عليه، فإن الأمر لا يبرر تحويل سوريا لخلفية نووية روسية، خلفية حكمًا وبالضرورة ستجر ويلات مواجهة قد تقود لحرب عالمية نووية لا تبقي ولا تذر، ويمكن أن تحدث في لحظة من لحظات انفلات الأعصاب، لا سيما في زمن الرؤوس الساخنة التي لا تقوى على التفكير السديد.
مواجهة «داعش» مطلب دولي محبوب ومرغوب، لكن هل تلك المواجهة تستدعي توسيع الساحات المخصصة للطائرات الحربية وبناء تحصينات لحماية الطائرات من عمليات قصف محتملة من الأرض والجو؟ وهل لدى «داعش» تلك الإمكانيات في الوقت الحاضر، أم أنها استعدادات لملاقاة جنود ونيران الناتو، أميركيًا وأوروبيًا؟
الروس يخططون لتزويد القاعدة السورية بأجهزة اتصال إلكترونية حديثة، بما في ذلك منظومات خاصة بالتحكم بالحركة الجوية، مما يعني أنهم أضحوا أصحاب سيادة على الأرض السورية، في انتقاص لا تخطئه العين للسيادة السورية على الأراضي الوطنية، كما أن مشروع توسيع قاعدة «حميميم» عطفًا على تخصيص ساحات لهبوط وإقلاع طائرات النقل الثقيلة، يشمل أيضًا قيام روسيا ببناء ثكنات ومطاعم جديدة للعسكريين، بالإضافة إلى مستشفى ميداني وتجهيز مواقع لنشر منظومات صواريخ «بانتيسر» الحديثة التي ستحمي القاعدة، بحسب ما بثته «روسيا اليوم».
المصادر الروسية تعترف بالحقيقة الواضحة كالشمس في ضحاها.. «تحويل قاعدة حميميم إلى قاعدة عسكرية متكاملة لا يستهدف دعم سوريا كحليف لموسكو فحسب، بل تعزيز الأمن القومي الروسي».
.. يعن لنا أن نتساءل ما الفارق إذن بين سياسات روسيا الآنية في سوريا، والمحاولات الأميركية الدؤوبة في الشرقين الأدنى والأقصى، في أفغانستان والعراق؟
الفكر التوسعي البراغماتي واحد، بل إننا نشهد فصلاً روسيًا جديدًا من فصول الدوغمائية المطلقة، يشابه إلى حد التطابق منطلقات جورج بوش الابن في حروبه الغابرة.
الروس ينظرون اليوم إلى أنفسهم كأنهم رسل العناية الإلهية المنتظرون، وعليهم ينعقد خلاص الشرق الأوسط والعالم من الشر الأميركي المستفحل والمسيطر، هل من لا يصدق؟
فليسمع هؤلاء ما يقوله ألكسندر دوغين، العقل المفكر لفلاديمير بوتين: «الرب سيحمي روسيا الجديدة وشعب روسيا».
هل نحن أمام جمهورية الرب الروسية، المكافئ أو المعادل الموضوعي لفكرة أميركا الدينية «مدينة فوق جبل»؟
ليكن ما يكون من أمر اعتقاد الروس أو الأميركان بأنهم «الشعب المختار» الجديد، غير أن ما يهمنا قوله هو أن سوريا وقيادتها تخطئ خطأ فادحًا إن أرادت الهروب للأمام على هذا النحو الذي يحرق ويغرق المنطقة، التي لا تحتمل أن تكون كوبا جديدة في القرن الحادي والعشرين وفي الشرق الأوسط، الذي أضحى «كأس الجحيم» فعلاً وقولاً.