صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

«مناورة» روسية أمْ بداية حل في سوريا؟!

غير معروف، حتى الآن ما هو الصحيح وما هي الحقيقة، فالروس يؤكدون أنهم تلقوا عرضًا أميركيًا، من الرئيس باراك أوباما نفسه، للتنسيق المشترك بين البلدين، روسيا والولايات المتحدة في سوريا، وخصوصًا في مجال مواجهة التنظيمات الإرهابية، «داعش» و«النصرة» على وجه التحديد، والأميركيون بادروا إلى النفي وبصورة معلنة ورسمية، وكل هذا مع أنَّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أجرى فعلاً اتصالاً هاتفيًا مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري لا يمكن إلا أن يكون قد تناول هذه المسألة آنفة الذكر، التي يبدو أنها باتت مطروحة بالفعل، ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الثقة بين واشنطن وموسكو ليست غير متوفرة وفقط، وإنما معدومة وبصورة نهائية!!
والمثير للتساؤل بالفعل هو أنَّ هذا التطور، الذي لا يزال غير مؤكد والذي من الممكن أن يكون مجرد مناورة روسية، بهدف مزيد من ابتزاز هذه الإدارة الأميركية التي دخلت مرحلة عدِّ أيامها الأخيرة، قد جاء في ذروة الخطوة التصالحية الـ«دراماتيكية» التي أقدم عليها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أولاً تجاه إسرائيل ثم تجاه روسيا، حيث كانت العلاقات بين موسكو وأنقرة قد وصلت، كردِّ فعل على إسقاط طائرة الـ«سوخوي» الروسية في تلك الحادثة المعروفة، إلى حدود المواجهة العسكرية الشاملة، وهذا يعني أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات يسعى للاستفراد بسوريا، باستدراج الأميركيين إلى اتفاق شكلي يكرس الوضعية التي بقيت قائمة بالنسبة للأزمة السورية خلال الثلاثة أعوام الأخيرة، والتي هي في حقيقة الأمر لا تزال قائمة حتى الآن، وقد تستمر إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة.
إنه لا يمكن الوثوق لا بهذا الرئيس الروسي ولا بوزير خارجيته فالتجارب، تجارب الثلاثة أعوام الماضية، أثبتت أنه بينما أنَّ قدمي فلاديمير بوتين في هذا العصر وفي هذه المرحلة، فإن رأسه لا يزال هناك في مرحلة صراع المعسكرات، بين الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية (الشيوعية) من جهة، والولايات المتحدة والمنظومة الرأسمالية من جهة أخرى، وهذا بالطبع ينطبق على سيرغي لافروف الذي بقي يحاول «تقليد» وزير خارجية المرحلة السوفياتية السابقة أندريه غروميكو، ولكن دون إحراز أي نجاح يذكر، وذلك لافتقاده إلى هيبة واتزان و«كاريزما» ذلك الرجل التاريخي الذي كان أحد رموز مرحلة تاريخية تختلف كثيرًا وفي كل شيء، عن هذه المرحلة التي هناك حيرة مربكة لدى كبار المؤرخين بالنسبة لتحديد مكانها في المسيرة الكونية التاريخية.
وهنا فإن ما يعزز وجهة نظر الذين لا يثقون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذين يعتبرونه مناورًا غير بارع في بعض الأحيان، أنَّ روسيا التي التقطت مبادرة رجب طيب إردوغان بفرح غامر لم تبادر إلى أي تغييرٍ إيجابي، وإن على نطاق محدود وضيق، فعملياتها العسكرية، بدل تخفيفها ازدادت عنفًا وشمولاً، وانفتاحها على تركيا لا يزال يراوح مكانه، إذ إن كل شيء لا يزال على ما هو عليه، وإن حزب العمال الكردستاني - التركي الـ«P.K.K» الذي استخدمه الروس كأحد أسلحتهم الفعالة ضد أنقرة لم يطرأ عليه أي جديد، وهو لا يزال مستمرًا بعملياته «الإرهابية» بالوتيرة السابقة نفسها وأكثر.
وهكذا فإنه لم يبدر عن الروس ما يدلُّ على أنهم جادون فعلاً في التفاهم مع الأميركيين ومع غيرهم، لوضع نهاية مقنعة للأزمة السورية، وذلك مع أن المفترض أن يبادر بوتين من قبيل إبداء ولو قليل من حسن النيات إلى التحقيق من هجمات سلاح الجو الروسي على المدن والقرى السورية وعلى مواقع المعارضة «المعتدلة».. إنَّ هذا لم يحصل إطلاقًا والواضح أنه قد لا يحصل أبدًا، والسبب هو أن الرئيس الروسي متمسكٌّ بإصراره على بقاء بشار الأسد قبل المرحلة الانتقالية وخلالها وبعدها، وإنَّ أقصى ما يطرحه هو تشكيل «حكومة وحدة وطنية»!! يشارك فيها «المعارضون» مجرد «ديكور» لا يقدم ولا يؤخر، وليس له أي دور فعلي لا في حاضر سوريا ولا في مستقبلها.
وهنا أيضًا.. فإنَّ ما يزيد الأمور ضبابية وارتباكًا هو أن الروس لم يطرحوا أي جديد يمكن البناء عليه والاعتداد به بالنسبة للأزمة السورية، وأن التقاطهم المبادرة الأميركية آنفة الذكر، التي نفتها واشنطن رسميًا، قد يكون مجرد مناورة كمناورات الرئيس فلاديمير بوتين الكثيرة السابقة، وهذا يعني أنه قد لا يكون هناك أي جديد يمكن الاطمئنان إليه بالنسبة للأزمة السورية المستفحلة، وهكذا وبالتالي فإنه لا يزال من المبكر جدًا الحديث عن حلٍّ معقول لهذه الأزمة، التي باتت هناك قناعة في العالم بأسره بأن موسكو هي التي أوصلتها إلى هذه الوضعية المأساوية التي وصلت إليها.
إن المفترض أن جزءًا من المصالحة التركية - الروسية قد أُعطي للأزمة السورية وحلها وعلى أساس القرارات الدولية واتفاق (جنيف1)، ويقينًا أنه إنْ بقي الروس يعملون في سوريا ما عملوه منذ بدايات غزوهم العسكري وحتى الآن، فإن تركيا بدورها ستدفع الثمن غاليًا وخصوصًا إنْ واصل حزب العمال الكردستاني - التركي الـ«p.p.k» عملياته العسكرية - التي كان استأنفها بعد تردي العلاقات الروسية - التركية، وحقيقة أنها ستكون بمثابة مصيبة كبرى إن ثبت أن الرئيس بوتين قد قبل بالمصالحة مع رجب طيب إردوغان كمناورة من مناوراته الكثيرة المعروفة.
لقد أعلن الروس أنهم مع أي حلٍّ للأزمة السورية يضمن لهم أولاً الحفاظ على مصالح روسيا الحيوية في سوريا، وثانيًا أن يكون اختيار البديل لبشار الأسد بموافقتهم وموافقة كل الأطراف المعنية. وحقيقة أن حتى الأطراف الأكثر تشددًا، إن بالنسبة للمعارضة السورية وإن بالنسبة للدول العربية المعنية وأيضًا إنْ بالنسبة للولايات المتحدة والغرب كله، لا تنكر هذه المصالح الحيوية الروسية المشار إليها، وأيضًا لا تعارض التفاهم بشأنها وبشأن الحفاظ عليها، فهي مصالح قديمة تعود لما بعد انقلاب حسني الزعيم في عام 1949، وهي بقيت يتم التعامل معها كحقيقة من حقائق علاقات دمشق الخارجية، وذلك رغم تقلبات الأوضاع في نحو نصف قرن وأكثر.
وبالطبع فإن الروس الذين يتابعون وجهات نظر المعارضة السورية وحلفائها وداعميها يعرفون أنَّ هؤلاء جميعًا لا يمكن أن يتصوروا مستقبلاً لسوريا مطمئنة ومستقرة دون الحفاظ على المصالح الحيوية الروسية هذه، وبالصورة التي من المفترض أن يتم الاتفاق عليها لاحقًا، ودون مشاركة كل المكونات الدينية والمذهبية والقومية، وأيضًا الاجتماعية في مستقبل هذا البلد الذي هو لكل أهله ومن بينهم الطائفة العلوية الكريمة، التي ربما لا يعرف كثيرون أن غالبية رموزها وأبنائها ضد هذا النظام منذ عام 1970 وحتى الآن، وذلك لأنهم كانوا وما زالوا الأكثر تضررًا من هذا النظام العائلي، الذي أساء إلى هذه الطائفة بمقدار إساءته إلى الشعب السوري كله.. وهكذا وفي النهاية فإنه لا بد من القول إن هذا الموقف الروسي آنف الذكر سيتأثر حتمًا بتطورات الأحداث التي استجدت في إيران في الأيام الأخيرة، وخصوصًا في «أصفهان» وأيضًا في منطقة «مهاباد» التي شهدت في عام 1948 قيام أول دولة كردية في التاريخ.