إميل أمين
كاتب مصري
TT

الأميركيون.. والحاجة إلى الرئيس الميكيافيللي

هل الأميركيون في حاجة إلى «الرئيس الميكيافيللي»، أي القائد الذي يفهم القوة، ولديه جوهر أخلاقي، في السنوات القليلة المقبلة؟ وهل لهذا الرئيس أن يعمل في فضاء أميركي بعيد عن بقية المؤسسات الأخرى التي رسم الآباء المؤسسون للولايات المتحدة خطوطها وحظوظها؟
في مؤلفه الشهير «القياصرة الأميركيون» يحدثنا كاتب السير الشخصية الأشهر البريطاني نايجل هاميلتون، عن عدد من الرؤساء الأميركيين الذين يطلق عليهم «القياصرة» لنجاحاتهم ونجاعاتهم في إدارة شؤون الدولة الأميركية، وقد بلغوا لاحقًا مستوى من العظمة، وفي المقدمة منهم أيزنهاور وترومان وكيندي وريغان، وعنده كذلك رؤساء لعنهم الناس لاحقًا من نوعية جونسون وبوش الابن، ولعل هذا يدعونا للتساؤل ما الذي ميز القياصرة الأميركيين، وهل واشنطن الآن في حاجة إلى رئيس من هذا النوع، غير الموجود في أسماء وسمات المرشحين الذين نراهم على سطح الأحداث؟
الشاهد أن الولايات المتحدة الآن في مسيس الحاجة إلى قائد «ميكيافيللي» من نوعية لنكولن وروزفلت وريغان.. لماذا؟
لأن جميعهم قادوا أمامهم دولاً عنيدة، وكان كل منهم من المهارة بما يكفي، لتكوين ائتلافات لها من القوة ما يمكنها من اجتياز العاصفة، وهو الفخ الذي وقع فيه أوباما، وظهر جليًا في مقابلته الأخيرة مع الصحافي الأميركي جيفري غولدبيرغ عبر صفحات مجلة «أتلانتيك» عدد أبريل (نيسان) الماضي، إذ عوضًا عن تمتين أواصر التحالفات الأميركية في أرجاء العالم، بات حاكم البيت الأبيض، وكأنه يريد أن يتحلل من أية رباطات لواشنطن مع دول العالم.
تبدو الكارثة المحدقة بالولايات المتحدة اليوم متصلة اتصالاً جذريًا بإشكالية «فرط الامتداد الإمبراطوري»، وذلك أن كل إمبراطورية تبلور ذاتها وتقدم مسوغاتها للتاريخ من خلال قدرتها على الوجود والانتشار وإقامة المستعمرات حول العالم، غير أنها وعند نقطة محددة من الزمن، وبحكم دورية تبادل الأدوار التاريخية التي تحكم الديالكتيك العالمي، تجد ذاتها غير قادرة على الموازنة بين متطلبات الداخل واحتياجاته، وبين مباشرة نفوذها حول العالم والذي صنعته طوال عقود الصعود، وفي هذه «النقطة الحرجة» تبدأ من جديد مرحلة أخرى هي الانعزالية، وفي حالة الولايات المتحدة، التمترس وراء حدود الأطلسي من الشرق والهادي من الغرب.
غير أن تلك الانعزالية الجبرية بحكم الواقع والمعطيات الاقتصادية، تتعارض مع توجهات أميركا الاستراتيجية التي رسمها المحافظون الجدد في نهاية تسعينات القرن المنصرم والخاصة بحتمية صبغ القرن الحادي والعشرين بصبغة أميركية بامتياز، وقد نتج عنها في عام 2010 أهم خطوط طول وعرض للسياسة الأميركية في أوقاتنا الراهنة والمسماة «استراتيجية الاستدارة نحو آسيا».
في هذا السياق نلمح مشهدًا من مشاهد التضاد التاريخي الكامن في النفسية والذهنية الأميركية، وهو ما أشرنا إليه أكثر من مرة باعتباره ظاهرة «تكافؤ الأضداد في الروح الأميركية الواحدة»، أي اختيار الشيء وعكسه، ففي الوقت الذي يريد فيه باراك أوباما لأميركا العظمة، لا يود أن يكون في مقدمة الفعلة الحقيقيين في الإطار، ويفضل دفع آخرين إلى الصفوف الأمامية، مكتفيًا بقيادة المشهد الأممي من وراء جدران القاعات المكيفة.
هل من بين المتقدمين لسباق البيت الأبيض «ميكيافيللي» قادر بالفعل على القيام بدور تاريخي في هذه اللحظة الأميركية الفاصلة في تاريخ هذا البلد إمبراطوري أم جمهوري؟
المعضلة الحقيقية التي تواجه المتسابقين، تتمثل في ضرورة امتلاك كل منهم لتصور عقلاني وموضوعي لا عاطفي لحال الولايات المتحدة الأميركية اليوم، والذي اختلف شكلاً وموضوعًا عن ملامح «مدينة فوق جبل» تنير للعالم سلامًا وأمنًا وديمقراطية وعونًا، بعد أن باتت صنوًا للدولة الإمبريالية، وإن بمفاهيم عصرانية غير عسكرية.
الأمر الآخر الذي يواجه أولئك هو غياب القائد الكاريزمي بين صفوفهم والقادر والمستعد لتحمل عبء التوفيق بين هذا الواقع والقيم الأميركية.
لن يفلح أي مرشح لرئاسة أميركا في العقود القادمة إن لم تكن لديه قدرة كبيرة على فهم أبعاد القوة وحدودها، ومزايا المبادئ الأخلاقية وتفاعلاتها، ومن ثم ينسج معزوفته الخاصة، حتى وإن جاءت في أطر من البراغماتية أو النرجسية المستنيرة.
وفي كل هذا قد يحتاج الأميركيون إلى حالة من الصحوة والنضج لإدراك الخطر القائم والقادم، لا سيما بين أصحاب المصالح الضيقة من جماعات الضغط ذات الأهداف التي لا تخفى عن أحد، والساعية إلى جعل أميركا إمبراطورية بالضرورة، وبين الشعب الأميركي الذي يود أن يعيش الجمهورية والرمز والرسالة التي حاول الآباء والمؤسسون بلورتها.
ذات مرة في منتصف القرن العشرين، تحدث رئيس وزراء بريطانيا الأشهر ونستون تشرشل بالقول: «يمكنك دائمًا الاعتماد على الأميركيين في فعل الصواب، ولكن بعد أن يجربوا جميع الخيارات»، وها هم بعد نحو ثماني سنوات من تجربة باراك أوباما وقبلها ثمان أخرى من تجربة بوش الابن.. فماذا عن الصواب الذي يمكن فعله هذه المرة؟
قد تكون المشكلة الحقيقية في انتخابات الرئاسة الأميركية هذه المرة هي في المعروض من نوعية المرشحين، لا في خيارات الناخبين، مما يعني أن الأزمة الأميركية في تفاقم وأن الرئيس «الميكيافيللي»، القادر على انتشال واشنطن من ضريبة «فرط الامتداد الإمبراطوري» غير موجود في الحال وإلى إشعار آخر.