خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

النار تخلف عارًا

ينطبق هذا القول المأثور بصورة خاصة على أسرة ونستون تشرشل. فذلك السياسي والقائد العسكري المحنك ورث المجد من أبيه وأجداده، كان منهم ذلك القائد العسكري البارع اللورد ملربلو، الذي انتصر على الفرنسيين في معركة خلدها الإنجليز في تاريخهم العسكري. ونحن جميعًا نعرف الدور البارع الذي لعبه ونستون تشرشل في الحرب العالمية الثانية. ولكن ونستون هذا، عانى من بعض أولاده وشذوذ سلوكهم. فابنته سارة أصبحت ممثلة فاشلة ثم انحرفت عن مهنتها وأدمنت على الكحول. قبضت عليها الشرطة في أحد شوارع نايتسبريدج في حالة غير مشرفة. وأنهت حياتها أخيرًا بالانتحار. وكان هناك ابنه راندولف، الابن الوحيد له. أدمن كذلك على الكحول ومات مبكرًا بعد حياة لم ينل فيها غير الكره والنقد من أصحابه. هذه حالة تنسف حجة من يعوّلون على الوراثة وكذلك على التربية. فلا البيئة ولا التربية التي وفرها لهما والدهما ضمنت لهما النجاح في الحياة.
أصيب راندولف بمرض صدري فأدخلوه المستشفى عام 1964 وقاموا باستئصال إحدى الرئتين. كان قد أصر على أن يرى ما سيزيلونه من صدره قبل رميه في القمامة. فعلوا ذلك. فلما تفرج عليه قال: إنها تبدو لي كشريحة شحمية من خروف عجوز لا يطيب لك أن تعطيها طعامًا للكلب. التقى الكاتب والروائي الساخر افلين وو بأحد أصحابه، مستر ستانلي. أخبره هذا بنتيجة العملية. قال إن الأطباء فحصوا رئته المريضة ولم يجدوا فيها أي أثر لورم خبيث. قال له الكاتب الساخر: هذه معجزة من معجزات الطب الحديث أن يستطيعوا العثور على شيء غير خبيث في جسم راندولف تشرشل وأن يزيلوا ذلك منه!
نقل ستانلي ما قاله افلين وو عنه، وانتهى الأمر بقطيعة استمرت اثني عشر عامًا حتى التقى به ثانية في أحد نوادي لندن. وصف الكاتب حالته ووجده في أسوأ صحة ولا يكاد يستطيع جر أنفاسه بنفس السهولة التي كان يشفط بها المشروبات الكحولية.
ولكن راندولف استطاع أن يتزوج في شبابه وينجب ولدًا سماه على اسم أبيه ونستون. شب ونستون تشرشل ودرس وتخرج من الجامعة ومارس الصحافة وانضم إلى حزب جده، حزب المحافظين. توقع القوم أن يعيد الدور الذي مثله جده ويحيي ذكراه في اسمه، ولا سيما بعد أن فاز بمقعد في مجلس العموم. بيد أنه سرعان ما حذا حذو أبيه في تعاطي الكحوليات ومصاحبة النساء الساقطات. كانت بينهن واحدة اشتهرت بجمالها وقيافتها، وأيضًا سمعتها السيئة. استغلت تلك العلاقة فراحت تشهر به في الصحف الرخيصة، ولم يملك غير أن يعترف بصحة ما أوردته واضطر إلى الاستقالة من مجلس العموم ومن حزب المحافظين، وأخيرًا من دنيا السياسة، وحطم كل ما كان يطمح به القوم في أن يعيد دور جده وأسرته العريقة. ومات عام 2010 في هدوء ونسيان.
أعود فأقول النار تخلف عارًا. ولكنني أناقش فحوى القول. فالنار لا تخلف العار وإنما تخلف الرماد. البشر الساقط من بني آدم هم الذين يخلفون العار.