عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

تحالف الحضارات وحوارها

المؤتمرات الدولية خليط من جادين أعدوا أعمالاً في إطار أهداف اللقاء بحثًا عن حلول للمشكلات، ومن مشاركين بحكم الوظيفة. هناك من يدورون كالنحل، لكنهم يمتصون الرحيق ولا ينتجون عسلاً. هدفهم الحفاظ على دوران العجلة، فالنشاط مصدر رزقهم خصوصًا أن المؤتمرات ترعاها منظمات دولية تديرها بيروقراطية ضخمة. لا يهمهم تحقيق الأهداف التي من أجلها أنشئت المنظمات الممولة للمؤتمر، فجماعة المنتفعين يهمها الاستمرار، لأن بلوغ الغاية يعني انتهاء المهمة وخروجهم على المعاش.
الحوار العالمي السابع لتحالف حضارات الأمم المتحدة هذا الأسبوع في عاصمة أذربيجان، باكو، كان نموذجًا لخليط المشاركين من هذه النماذج.
منظمو المؤتمر مثال للنموذج الأول. منذ الوصول للمطار وعشرات من الشباب والشابات خريجي الجامعات يتحدثون لغات المشاركين، يوفرون العون من باب الطائرة حتى الفندق ثم قاعات المؤتمر واحتياجات خمسة آلاف من المشاركين ووفود رسمية وبعثات دبلوماسية وصحافيين محليين ودوليين.
مؤتمر شمل أكثر من ثلاثين ندوة وأربعة لقاءات عامة بمشاركة ثلاثة آلاف وعدة مؤتمرات صحافية وحفلات للتعارف وإطلاق كتب، وتوزيع جوائز، توفير الانتقالات وضمان أمن وسلامة المشاركين فيه يشكل صداعًا لبوليس مدن ضخمة كلندن أو نيويورك، باكو المتواضعة بالمقارنة نجحت بلا حادثة واحدة. رئيسة المكتب الصحافي كانت حاضرة لتجهز لكل لقاء وتقدم تسونامي من المعلومات، شباب وشابات سواء من غانا أو ألمانيا أو أستراليا أو السويد عملوا لأسابيع طويلة ليقدموا نماذج عن تعاون الحضارات في ورش العمل.
استعراض مفهوم تحالف الحضارات وما المقصود به ضروري لدراسة نماذج المشاركين الآخرين.
مفهومي الشخصي (لا مفهوم الأمم المتحدة وباستطاعة القارئ مراجعته على موقع المنظمة الدولية) لتحالف الحضارات ثلاثي الأبعاد، والهدف منه توظيف كل إيجابي في الحضارة الإنسانية لتجنب أو هزيمة ما هو سلبي.
البعد الأول هو تواصل للحضارة الإنسانية لأكثر من سبعة آلاف عام.
المصريون قبل سبعين قرنًا اخترعوا الهندسة المعمارية والحسابات، والبابليون علوم الزراعة، وطور الإغريق والرومان الابتكارات بعد ثلاثة آلاف عام بابتكار المسرح بشكله الحديث وتقنين العلوم وتأسيس قواعد الديمقراطية، ثم اخترع الصينيون الورق في الألفية التالية، وتطورت الإنسانية بعصر النهضة في القرن الخامس عشر بترجمة كتب مكتبة الإسكندرية التي كانت اختفت قبل عشرة قرون، فالثورة الصناعية فعصر العقل والتنوير.
وهو المدخل للبعد الثاني بتزاوج الحضارات وتداخلها اعتمادًا على بعضها البعض. الندوات في مركز شيدته زهاء حديد معمارية عالمية عراقية المولد، بمواد بناء ابتكرتها حضارات فينيقية وآشورية وتكنولوجيا يابانية وأميركية. اختتم المؤتمر بحفل ثقافته البنيوية من ميراث الحقبة السوفياتية (رغم إخفاق النموذج السوفياتي في خلق العدالة الاجتماعية المنشودة وإسعاد الفرد، فإنه بلغ مستوى يحسده عليه العالم في الفنون الراقية كالموسيقى الكلاسيكية والباليه والأوبرا). جسد المفهوم بتقديم الأوركسترا القومية استعراضات مقاطع أوبرا وباليه، موسيقية متعددة الحضارات والثقافات قدمها فنانون من 15 جنسية مختلفة، واختتمت بعزف السيمفونية التاسعة لبيتهوفن (آخر سيمفونياته عام 1824، والأولى التي تشمل كلمات هي نشيد الأخوة الإنسانية الذي كتبه الشاعر الألماني فريدريك شيللر في 1875 واعتبرته المفوضة الأوروبية النشيد القومي لأوروبا) تعبر عن العالمية بصور متتابعة على الشاشة من الحضارات القديمة والحديثة (أبو الهول والأهرامات، وسور الصين العظيم، وآثار الإغريق، والرومان والحضارات الأحدث مثل بيغ بن، وبرج إيفل وأوبرا سيدني وتمثال الحرية).. أي استخدام أشهر ما في الحضارات للتعريف بالأمم. اللغات المتعددة كانت البعد الثالث لتجمع الحضارات، ليكتشف الجميع أن الإنسان على اختلاف عرقياته وأديانه هو الإنسان بأحلامه وآماله وحاجته للأمن والسلام.
تركز اهتمامي على ندوات تتعلق بالتعليم ومناهضة خطاب الكراهية ومحاربة التطرّف على وسائل التواصل الاجتماعي.
في الندوات التي حضرتها ظهر النموذجان: البيروقراطي وجوقة المنتفعين باستمرارية إدارة الأزمات بدلاً من رسم خطط عملية لاحتوائها. الأمر بالطبع ليس تعمدًا وإنما الشكل البيروقراطي المعهود بتوجيه الطاقة والإمكانيات للاستمرار في الإدارة البيروقراطية نفسها، أي يتحول process أو الطريق أو الأسلوب إلى غاية في حد ذاته وليس للتوصل إلى حلول.
ورغم أن عددًا من المشاركين بذل الجهد في تحضير الأوراق المقدمة وبحثها، فإن الملاحظ تغليب الطابع الأكاديمي والتحليلي بالأرقام والتفاصيل على كل من الحلول العملية وفهم الواقع اليومي للتعامل معه.
ندوتان عن دور أوساط التواصل الصحافي والاجتماعي بكل أنواعها (الترجمة الأدق media وليس «إعلام») وتناولتا خطاب الكراهية، وكيفية خلق الوعي بما إذا كانت رسالة الوسيلة الصحافية إيجابية أم أنها تكرس النمطية والعنصرية وكراهية الأجانب وغيرها من السلبيات.
المنصة التي قدمت أوراق المناقشة تشكلت كلها من الأكاديميين والبعض بخبرة قصيرة في الصحافة، وليس بينهم صحافي واحد بخبرة عملية. يريدون للصحافة دورًا إيجابيًا بإرشاد الرأي العام في اتجاه معين بعيد غالبًا عن الواقع. فمن المسؤول عن تعريف الرسالة المراد ترويجها؟ ومن منحها الصلاحية أصلاً؟
كما أن الصحافة تتابع ما حدث أو تنقله مباشرة. لا يوجد محرر واحد عاقل يبث أو ينشر ما لا يهتم به القارئ والمشاهد، لأن ذلك أقصر طريق لإفلاس المؤسسة الصحافية.
والسؤال عن الخبرة العملية الصحافية أثار ردًا انفعاليًا من أكاديمية أميركية مدعية أن وسائل التواصل الاجتماعي والمدونات تجعل من أي شخص صحافيًا. الواقع أن الصحافي المحترف تلقى تدريبًا وله خبرة طويلة ويتأكد من المعلومة قبل نشرها، وإلا مثل أمام القضاء بتهم التشهير والقذف أو انتهاك الخصوصية، بينما لا توجد آليات تطبيق القانون على مشاركي وسائل التواصل الاجتماعي.
في ندوة عن الصحافة أصرت مسؤولة من الأمم المتحدة على مشاركة أكاديمية مصرية من الجامعة العربية، وكانت مداخلتها طويلة ولا علاقة لها بموضوع الندوة، بل طرحت أسطوانة قديمة (يرددها المثقفون المسلمون بأن الإسلام دين محبة وسلام لا يبرر العنف لكن اختطفه الإرهابيون). أما البرامج المطروحة في أوروبا لمكافحة خطاب الكراهية وإبعاد الشباب عن الإرهاب فلا يوجد دليل واحد على أنها أعادت الشباب الذي التحق بتنظيمات إرهابية إلى رشده.
ويبدو أن الحساسية من إهانة المسلمين أو استفزاز مشاعرهم حولت الانتباه عن التفكير في أهم معوقات مواجهة خطاب الكراهية والتطرف، وأقصد أساليب التعليم في البلدان الإسلامية. أسلوب التلقين والخنق المبكر لفطرة أو غريزة التساؤل والاجتهاد الفردي في التفكير عند التلميذ الذي يعاقبه المعلم إذا طرح تساؤلات أو شكك في المعلومات، أسلوب يخنق الاجتهاد الفردي ويضع في العقل الباطن للطفل فكرة الطابو أو المحرمات التي تشل عقله عن التفكير في حلول لها. بينما في الحضارات الأخرى يحث المعلمون التلاميذ على التشكيك في أي معلومة وطرح تساؤلات تتحدى كل مفهوم مع البحث عن الأسباب والبراهين.
فروق في أساسيات التعامل مع المعرفة تجعل إقامة جسر التواصل بين الحضارات، حتى في غرفة واحدة، أمرًا مستحيلاً.