بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

الإسلام ليس للمسلمين وحدهم

قد يصدم العنوان أعلاه بعضًا، فتشكل الدهشة والرفض، أو الغضب والاستنكار، رد الفعل الفوري. وقد يغيب التمهل فينعدم الصبر، ولا يستكمل أحدهم ما بدأ، قبل أن يُصدِر الحكم، مع أو ضد ما قرأ. بالمقابل، قد يبادر آخرون إلى قلب الصفحة قائلين بتذمر: ما أتيت بجديد. هل يمكن القول إن كلا الفريقين معذور؟ نعم، ذلك أن الفريق الأول يختصر الإسلام فيما يفرض الدين من عبادات. وإذا جاء من يجتهد خارج جدران المسجد، ليقول إن الحضور العالمي للإسلام يتجاوز نطاق الممارسة التعبدية، ودفاتر المدرسة، ويوجب إعادة تفعيل منهج التأثير الحضاري لعلماء مسلمين نَشطوا فجدوا، واجتهدوا فجددوا، وبينهم من أثْروا العلوم عبر قرون خلت فأثَّروا في مسيرة حضارات إنسانية عدة، فالأرجح أن الآتي بهكذا تذكير في زماننا هذا سوف يُواجَه بمن يضعه خارج ملة المسلمين نهائيًا، فيبدو كمن يحكم بطلاق بائن بين مسلم ودينه. أما مكمن عذر الفريق الثاني بألا يرى أي جديد بما أورد العنوان، فهو سعة الاطلاع وعمق المعرفة، وهما أمران ليس سهلاً توفرهما لكل الناس، بل الأصح أنه لا يُلقّاهما إلا ذو حظ سعيد.
وبين المحظوظين، في هذا الأوان، أولئك الملمون بمدى إسهام أكفاء من غير المسلمين في مجالات العلم والمعرفة في تسليط الضوء على جوهر رسالة الإسلام الإنساني، وتأثير حضارة المسلمين طوال عصرها الذهبي على حضارات شعوب كانت ديارها تغط في سبات تخلف عميق. ذلك، بالتأكيد، تقدير للإسلام لم يحظ به داخل بعض ديار المسلمين أنفسهم، وهو صادر عن ذوي ألباب تراهم يألمون لما يلحق بالإسلام من الأذى، تمامًا كما يتألم المسلمون بالفِطرة، لما يُنسب لدينهم من ويلات سفك دماء وتفتيت بلاد وتشتيت عباد طوال ظُلمات مراحل متباعدة من التاريخ الإسلامي، وها هي إحداها تفرض ظُلمة جبروتها من جديد.
شواهد الواقع تقول إن ما أصاب الإسلام من أذى بعض المسلمين أخذ من حساب رصيد مكانته في العالم جراء ما ارتكِب من حماقات باسمه منذ جريمة تنظيم القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، وما تلاها من استنساخ تنظيمات القتل بعضها بعضًا، وتنافسها في الفظاعات، حتى الوصول إلى ظُلمة رايات سود يريد صانعو وهم «دولتها» تغيير مجرى التاريخ بإعادة البشرية جمعاء، وليس المسلمين وحدهم، قرونًا إلى الوراء.
ذات مساء، قبل أربع سنوات تقريبًا (أكتوبر/ تشرين الأول 2012) شاهدت أندرو مار، أحد مشاهير نجوم «بي بي سي»، يقول لمن شاهد رابع حلقات برنامج له تحت عنوان «تاريخ العالم»، ما خلاصته التالي: عندما تستخدم الهاتف الجوال تذكّر أن جهد عالم من العصر الذهبي للحضارة الإسلامية مختبئ داخله. هو كان يشير إلى محمد بن موسى الخوارزمي، وقد ذكره بالاسم، مشيرًا إلى دوره في تأسيس علم الحساب ونظام العد العشري (ALGORISM) وذكّر مشاهديه بأن الاسم مشتق من اسم الخوارزمي نفسه، وله دور أساسي في بنية كل كومبيوتر بين أيدي الناس. في الخامس من مايو (أيار) المقبل سيتوجه الناخبون في لندن وضواحيها لانتخاب عمدة جديد من بين مرشحين كثر، أبرزهم اثنان، أحدهما المسلم صديق خان، مرشح حزب العمال، والثاني زاك غولدسميث، الذي يمثل المحافظين. الخميس الماضي احتفل البريطانيون، ومعهم دول الكومنولث، ببلوغ الملكة إليزابيث الثانية عامها التسعين، وشاهد ملايين الناس توقف الملكة أمام كعكة ميلاد من ثلاث طبقات أعدتها لها الشابة المسلمة نادية حسين. بالطبع، تذكرون العداء الصومالي محمد فرح وما حصد لبريطانيا من ذهب الميداليات. وقبل أيام ودع علية القوم هنا بأسى المعمارية المبدعة، البريطانية - العراقية، زهاء حديد، وشُيع جثمانها باحترام مهيب. ثمة دلالة هنا مضمونها أن مسار الزمن يستمر. صحيح أن عثرات الشر تتغول بعض الوقت، لكن صبح الخير ينهض من سبات الليل، ولو بعد حين قد يطول. لذا، يبقى الأمل أن كل هذا الشر المراد بالجوهر الإنساني لرسالة الإسلام هو إلى زوال، إذ هو منذ البدء، وإلى الأزل، أراد إثراء البشرية بجواهر معرفة ونور، وما هي للمسلمين وحدهم.