خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

في التجديد نعمة ونقمة

إن في غرس روح الاستهلاك في شعوب فقيرة خبثًا واستهتارًا، ويعود إليه قسط كبير من الفساد الجاري في بلادنا، والعالم الثالث عمومًا. وفي مقدمة ذلك الجدة. لا بد بالطبع أن نعترف بما للجدة والتجديد من فضل كبير على تقدم الإنسان، بيد أن الرأسمالية في تميزها بالإنتاج الواسع النطاق واجهت مشكلة تصريف منتجاتها بعد إغراق السوق بها، فعمدت لشتى الذرائع في الحصول على زبائن لبضائعها. من هذه الذرائع تجديد البضاعة. لا بأس إذا كان التجديد يأتي بتحسن في الأداء، واقتصاد في الوقود، ولكن أكثر عمليات التجديد لا تمس غير الشكل والإضافات الكمالية، كإنتاج موديل جديد بتفصيل جديد ولون جديد.
المهم هو أن يأتي الرأسمالي بنسخة جديدة من بضاعته، ليحمل الناس على هجر النسخة القديمة، وشراء النسخة الجديدة. وهكذا، يجتمع المنتجون في أول السنة ليبحثوا ما الذي يمكن أن يأتوا به من جديد. لهذه العملية فضيلتها في عملية التطوير والارتقاء، ولكن لها رذيلتها من الناحية الأخرى في الإسراف والتبذير وتلويث البيئة وخلق أكوام من القمامة.
أسوأ من ذلك، سرعان ما تحول الدافع الصناعي والرأسمالي لاستعباد الجمهور بالجديد إلى سنة وقيمة مجردة لها كيانها الخاص. كثيرًا ما أخاصم زوجتي بشأن الطبخات التي تعدها. تكون أحيانًا غير صحية، أو غير لذيذة أو طيبة. حجتها أنها تحاول أن تأتي بشيء جديد في طعامنا. عبثًا أحاول أن أقنعها بأن ما لدينا من طبخات لذيذة وصحية معروفة يكفينا. هناك في معظم المجلات صفحة مخصصة للطبخات. ولها محرر عليه أن يملأها كل يوم بشيء جديد وإلا فقد وظيفته. تقرأها ست البيت، فتعملها بغض النظر عن جودتها أو مذاقها.
انتقل هذا الهوس بالجدة إلى عوالم الفكر. على المفكر أو الفنان أن يأتي بشيء جديد. هذا هو سر كل هذه الخزعبلات التي تواجهنا يوميًا باسم الشعر الحديث، والفن الحديث، والغناء الحديث. لم نعد نسأل الأديب أو الفنان عن إجادته. نسأله فقط عن جديده.
شاع هذا الهوس حتى في ميدان الطب. نسمع كل يوم عن طريقة جديدة في معالجة ألم المفاصل، أو رعشة اليد. يهرع المبتلون بها إلى المتخصصين. تمضي بضعة أشهر، فيظهر طبيب جديد ينشر تقريرًا جديدًا يكشف أن تلك الطريقة لا فائدة منها، بل ومضرة. ينصح باستعمال أسلوبه الجديد القائم على الكهرباء. بضعة أشهر أخرى، ونقرأ تقريرا يثبت أن الكهرباء أسلوب عفّى عليه الزمن. التدليك بزيت الزيتون هو الأسلوب الصحيح. أما الأدوية فلا تسأل. نسمع كل يوم عن عقار جديد يشفي الزكام، ويقطع السعال. ولم أنجح بعد، طوال حياتي، في التخلص من الزكام بدواء.
وماذا عن الحب والغرام؟ لِمَ كل هذه الفضائح، وانتشار الطلاقات، وتعدد الزيجات، وتفاقم البغاء؟ نعم، نفس الحكاية. الجري وراء الجديد.. من الطبخ إلى الأدب إلى الطب، كل هذا الهوس بالجديد انعكاس لميزة المجتمع الصناعي الرأسمالي القائم على الإنتاج الغزير الجائع للزبائن، والمضطر لمواصلة الإنتاج والتسويق بتجديد البضاعة، تجديد غلافها، تجديد ألوانها، تجديد اسمها. علمونا في المدارس أن التوفير فضيلة والإسراف رذيلة، وإذا بالمسؤولين البريطانيين يحثون الشعب الآن على الصرف والتسوق لإنقاذ الاقتصاد البريطاني.. حيرونا.