إميل أمين
كاتب مصري
TT

الجامعة العربية.. مآلات وتحديات

سيلتئم قريبًا شمل وزراء الخارجية العرب في مقر جامعة الدول العربية، لاختيار أمين عام جديد للمنظمة، وربما لم يعد السؤال يتعلق بشخصية المسؤول العربي الرفيع القادم وجنسيته، بقدر ما بات يتصل بالتحديات التي تواجهها الجامعة والآليات المطلوبة لتجديد روحها، إن أراد العرب أن يكون لها مستقبل يتصل بالأجيال المقبلة.
يرحل الأمين الحالي الدكتور نبيل العربي وفي جسد الجامعة، بل الأمة، جراحات ثخينة، وملفات مفتوحة على صراعات مصيرية، ودول عربية تواجه الأسوأ الذي لم يأتِ بعد، ما يجعل مهمة الخلف شاقة دون تعاون عربي - عربي حقيقي، خوفًا من السقوط في بئر الهاوية السحيق.
أفرزت الأعوام الخمسة المنصرمة بما شهدته من تطورات وثورات علامة استفهام، وربما في الواقع علامات.. هل لا يزال للجامعة العربية مستقبل؟ وإذا أريد لها ذلك فهل من ضرورة حتمية لتغيير ميثاقها الذي لم يعد يواكب حركة التاريخ، وسياقات الأحداث، ورؤى ما بعد النظام العالمي الجديد؟
يدهش المرء إذ يفاجأ بأن الأسباب الرئيسية التي من أجلها أنشئت الجامعة لا تزال حتى الساعة قائمة، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية، وأحلام الوحدة العربية، والسوق العربية المشتركة، والدفاع العربي المشترك، وجميعها تمثل حاجة ماسة يأمل الكل في تحقيقها، أو في أضعف الإيمان أن تصيب الجامعة نجاحًا منها بدرجة أو بأخرى.
هل يمكن عزل الإخفاقات التي أصابت الجامعة حتى الساعة عن حالة التردي السياسي العربي والاهتراء الثقافي والفكري، والفشل في الوصول إلى الدولة الحديثة بمعناها ومبناها بعد عقود من الخلاص من الاستعمار؟
بالقطع ما يجري في أروقة جامعة الدول العربية هو رجع صدى لا يتأخر ولا يتلكأ للحالة العربية بوجه عام، حالة التشظي والخلاف، الفراق وعدم الاتفاق، تغليب المصلحة الخاصة على العامة..
على أن سائلاً عربيًا مخلصًا في التساؤل والبحث عن الجواب نسمعه يقول: «هل يمكن أن تكون اللحظة الحالية على ألمها ومرارتها منطلقًا لتجديد حقيقي، وصحوة عربية، كما الفينيق الأسطوري، من الرماد؟
قطعًا التحديات في الحال مخيفة، وفي الاستقبال مرعبة، ومن دون تفكير علمي موضوعي لن يكون للجامعة العربية نفع على أي صعيد من الأصعدة، وهنا ربما يتحتم على أصحاب العقول النيرة وضع تصورات للمستقبل حتى لا يكون الغد بأحلامه ومآلاته وإشراقته، صنوًا للأمس بخيبات أمله وانكساراته.. ما الطريق إذن؟
تنشأ القضايا الكبرى في العقل كأفكار، قبل أن تجد تطبيقاتها على الأرض، وعليه ربما تكون الحاجة في زمن العولمة المتوحشة والرأسمالية والتغريب الممحولين، إلى تعميق الإيمان بالعروبة كمعين حضاري يجمع العرب، لا سيما الأجيال الناشئة التي لم تعاصر زمن المد القومي وشعارات أمة ذات رسالة خالدة.
لا مكان فاعل لجامعة الدول العربية على الأرض دون آليات حقيقية تجعل منها مؤسسة قادرة على الفعل، ودون الوقوف عند عتبات التنظير الآيديولوجي فحسب، وباختصار بلورة رؤية دفاعية حقيقية ناجزة، تكون مسؤولة عن صياغة الأرض العربية من أخطاء وخطايا الذات والآخرين، وتحول بين تدخلات الأجنبي التي ما جرّت إلا الدمار والنار، والتجارب الأخيرة خير شاهد على ذلك.
تحتاج الجامعة العربية في عهدها الجديد إلى آلية واضحة المعالم لحل الخلافات العربية الداخلية دبلوماسيًا وتكون قادرة على تسوية المنازعات التي تنشأ بين أعضاء الجامعة، وقد كان غياب مثل هذه الآلية بمثابة «كعب أخيل»، في الجسد العربي، نفذ منه المغرضون والمتآمرون، ولا يزالون بين جنباتنا حتى الساعة.
لن تقوم للجامعة قائمة دون رؤية سياسية استشرافية تقرأ ما يجري في المنطقة العربية من تحالفات خبيثة تريد إخراج العرب من الجغرافيا، بعد أن عمل أصحابها على إزاحة العرب من التاريخ.. تحالفات لا تخفى على عين الناظر المحقق والمدقق، من نوعية حلف المصالح المشترك الممتد من طهران مرورًا بتل أبيب وصولاً إلى واشنطن، رؤية يصوغها حكماء العرب من السياسيين، والسوسيولوجيين، والأنثروبولوجيين، عطفًا على الاقتصاديين والعسكريين، فالتحدي هنا وجودي وليس حدوديًا.
تستدعي أحوال العالم المالية، وأوضاع العرب الاقتصادية إحياء ملف التكامل العربي الاقتصادي في أقرب وقت، لا سيما أن هناك ضربات وجهت ولا تزال للمداخيل العربية، عبر التلاعب المؤامراتي بأسعار النفط، ودون هذا التكامل تبقى المنطقة العربية مهددة بإفلاس حقيقي لا مجازي.
إضافة إلى ما تقدم فإن اللحظة الحالية تحمل تهديدًا غير مسبوق، عبر نوع جديد من أنواع الطاعون العصري إن جاز التعبير.. تهديد الإرهاب العابر للسدود والحدود، وغير الممكن التصدي له بشكل فردي، ودون عمل تعاوني جماعي.
الإشكالية الحقيقية التي يواجهها الأمين العام الجديد، هي إعادة صبغ شعوب العالم العربي، بصبغة عربية خالصة، فلا الإيرانيون ولا الإسرائيليون ولا الأتراك، الجيران جغرافيًا، يمكن أن يشركوا العرب في هوياتهم التاريخية، ولهذا يبقى الآن زمن البحث عن الهوية العربية وتأصيلها وتجذيرها، قبل الذوبان والانحلال في «هويات قاتلة» تحيط بنا من كل جانب.
منذ زمن الفتنة الكبرى والعرب في حالة شقاق وفراق، والاستمرار في المشهد عينه ترف لا تحتمله اللحظة المحملة بالانفجارات والصدامات القائمة والقادمة، ما يعني الحاجة إلى إرادة فولاذية لتجاوز كوابيس اليقظة في حاضرات أيامنا، وهو أمر لن يقوم به أي أمين عام قادم بمفرده، إنها مهمة شاقة لكنها غير مستحيلة، سيما أن حسن النوايا لا يغني عن سلامة التدابير.