أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

السؤال إيراني.. والإجابة يابانية

من منظور العقلية الديكارتية الغربية، فإن أي سؤال يمكن أن تكون له إجابتان فقط: «نعم» أو «لا». إلا أنه مع الانتقال نحو الشرق، تظهر احتمالات أخرى في الأفق.
على سبيل المثال، يمكن للعرب الإجابة عن تساؤل بعبارة: «الله أعلم». أما الإيرانيون فلديهم أسلوبهم الخاص في التهرب من «نعم» و«لا»، ويتمثل في كلمة «باري»، التي يمكن ترجمتها باعتبارها تعني «دعونا ننتقل لأمر آخر»، إلا أن اليابانيين يلجأون لخيار أفضل من «نعم» و«لا»، ففي حال مواجهتهم بسؤال محرج يجيبون بكلمة «مو»، التي تعني «اسحب سؤالك»، في الواقع، هناك أسئلة سيفكر أي شخص ذكي مليًا قبل طرحها.
هذا الأسبوع، وجدت نفسي في مواجهة سيل من هذا النمط من الأسئلة، التي ارتبطت بما يدعى «الانتخابات» التي شهدتها الجمهورية الإسلامية في إيران. وكان التساؤل الأبرز: «هل ستؤدي هذه الانتخابات لتغييرات مهمة في السياسة الخارجية للنظام الخميني»؟
وينبع هذا التساؤل من حقيقة أنه على امتداد عقود، صاغت الديمقراطيات الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، سياساتها تجاه إيران حول الآمال في حدوث «تغيير داخل النظام»، وليس «تغيير النظام»، والملاحظ أن الرئيس الأميركي باراك أوباما تحديدًا اعتمد أكثر من أي زعيم أوروبي آخر على هذا الأمل. وتدور وجهة نظره حول أن سلفه جورج دبليو بوش أهدر فرصة لتحقيق «تغيير داخل النظام» في إيران برفضه دعم الرئيس «الإصلاحي» محمد خاتمي، بل وزاد على ذلك بوصفه الجمهورية الإسلامية باعتبارها جزءًا من «محور الشر».
وجاء أوباما عازمًا على القيام بالعكس تمامًا، مما فعله بوش من خلال التراجع سعيًا لإرضاء الملالي الحاكمين في طهران، بل ورفض مجرد تقديم دعم أخلاقي للإيرانيين الذين وقفوا بوجه النظام الخميني عام 2009، وأقنع قوى غربية أخرى بالتزام الصمت. أيضًا، بعث أوباما بخطابات بخط اليد إلى كل من «المرشد الأعلى» علي خامنئي، والرئيس محمود أحمدي نجاد، مما نجح في إقناعهم نهاية الأمر بأن الإدارة الأميركية على استعداد للسير على النهج الذي يرضي طهران.
وعليه، بدأت مرحلة جديدة أسفرت في النهاية عن صورة زائفة لاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل، ورفع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
في الوقت ذاته، جرى النظر لانتخاب حجة الإسلام حسن روحاني رئيسًا للبلاد باعتباره عودة للفرصة التي سبق أن سنحت في عهد خاتمي، والتي أهدرها بوش الابن. وأطلق على روحاني وصف «إصلاحي»، وأوكل إليه الدور الرئيسي في النسخة الجديدة من سيناريو «التغيير من داخل النظام».
من جهته، شدد وزير الخارجية الأميركي جون كيري، عام 2014، على ضرورة دعم واشنطن لروحاني كي يفوز في الانتخابات العامة المقبلة المقررة عام 2016، وبالتالي تصبح بيده سلطة كافية لتغيير مسار سفينة النظام الخميني الجانحة.
وبالفعل، أُجريت هذه الانتخابات، يوم الجمعة الماضي، ونظرًا لانغماسها في أوهامها سارعت وسائل الإعلام الغربية لإعلان فوز الكتلة «الإصلاحية» بقيادة روحاني ومعلمه هاشمي رفسنجاني، حتى قبل إعلان النتائج.
من جانبها، أعلنت صحيفة «نيويورك تايمز»، وهي من المؤيدين المتحمسين لأوباما، أن تلك الانتخابات تشكل «البداية الجديدة» التي عمل من أجلها الرئيس منذ عام 2009. إلا أن المشكلة كانت أن «إصلاحيي» روحاني، إذا كان لهم وجود من الأساس، لم يفوزوا في «المجلس الإسلامي»، الذي يقوم محل البرلمان، ولا داخل «مجلس الخبراء» الذي يختار «المرشد الأعلى».
وحتى لو كانوا فازوا، تظل الحقيقة أن السياسات الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية لا تجري مناقشتها لا من قبل مجلس الوزراء بقيادة روحاني، ولا من جانب المجلس الإسلامي، ناهيك بصياغتها وإقرارها. على سبيل المثال، كان حريًا بأوباما معرفة أن ما يطلق عليه «الاتفاق النووي» لم يعرض حتى على مجلس الوزراء، وأن المجلس الإسلامي لم يتلق ترجمة فارسية رسمية لـ«خطة العمل الشاملة المشتركة» التي جرى الترويج لها باعتبارها الإنجاز الدبلوماسي الأكبر المرتبط بالاتفاق.
وتزداد صعوبة تفهم الجمهورية الإسلامية، ناهيك بالتكهن بمسارها المستقبلي، جراء ولع الغرب بالمصطلحات السياسية. أثناء الحرب الباردة، استخدم خبراء غربيون مصطلحي «الصقور» و«الحمائم» في تحليلاتهم للاتحاد السوفياتي. ولم يدركوا إلا بعد انهيار الإمبراطورية الشيوعية أن الطيور الوحيدة داخل الكرملين كانت الجوارح وطيور الغاق الشرهة.
الحقيقة أنه ليس هناك «إصلاحيون» داخل الجمهورية الإسلامية، فخاتمي لم يكن إصلاحيًا، ولا روحاني كذلك. في الواقع، لقد كان خاتمي أمينًا بما يكفي لأن يستخدم مصطلح «إصلاح طلب»، الذي يعني «الشخص الساعي نحو الإصلاح» من دون الادعاء بأنه يعرض أي برنامج إصلاحي واضح. وعلى امتداد السنوات الثماني التي قضاها بالرئاسة، لم يطرح خاتمي إصلاحًا واحدًا بأي مجال - سواء الاقتصاد أو السياسة أو الثقافة أو الصعيد الاجتماعي أو السياسة الخارجية. أما مسألة أنه لم يكن باستطاعته ذلك، مثلما يقول أنصاره، أو ليس لديه رغبة في ذلك، مثلما يتهمه منتقدوه، فهي ليست ذات أهمية هنا.
والملاحظ أن روحاني تحلى بالقدر ذاته من الصدق، حيث وصف نفسه بأنه «اعتدالي» بمعنى أنه معتدل، وليس «إصلاحيًا». الجمعة الماضي، فازت قائمة المرشحين المدعومين من روحاني وخاتمي، وكذلك رفسنجاني، بجميع المقاعد الـ30 بالمجلس الإسلامي عن طهران، لكن القائمين على صياغة القائمة كانوا على درجة كافية من الصدق لأن يصفوها بـ«قائمة الأمل»، وليس «الإصلاح».
وعليه، يتضح أن لفظي «الإصلاح» و«الإصلاحي» فيما يخص الجمهورية الإسلامية لا يوجدان سوى في مخيلة أوباما ومحلليه الموهومين.
ومع ذلك، فإن كل ما سبق لا يعني أن أشخاصًا، مثل خاتمي وروحاني، والأهم من ذلك البعض من المدرجين بـ«قائمة الأمل» غير مدركين لحقيقة أن الجمهورية الإسلامية تسير نحو الانتحار، وأن هناك ضرورة للتغيير ليس لإنقاذ النظام فحسب، وإنما الأهم من ذلك البلاد بأكملها. إلا أن المشكلة تكمن في أن النظام الخميني، مثلما الحال مع الأنظمة الأخرى القائمة على بناء آيديولوجي منفصل عن الواقع، تفتقر إلى أية آلية للإصلاح. إن النظام الخميني متعذر إصلاحه بقدر ما كانت ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي سابقًا، أو كوريا الشمالية وكوبا وزيمبابوي الآن.
الحقيقة أن هناك الكثير من الأشخاص الصالحين داخل النظام الخميني، بما في ذلك أفراد «انتخبوا» لعضوية المجلسين، الجمعة الماضي. كما أنني على ثقة من أن البعض منهم «يسعى نحو الإصلاح» بجد. بيد أن المشكلة أنهم لا يدركون أي نوع من الإصلاح تحتاج إليه البلاد، وحتى إذا عرفوا لا يجرؤون على التفوه به علانية، وذلك لخوفهم من أن يسفر تغيير حجر واحد بهذا البناء المتداعي عن تداعي البنيان بأكمله، وهو كابوس مروع لهم بالتأكيد.
إذن، هل يمكن أن يقود «الساعون نحو الإصلاح» إيران باتجاه الإصلاح، كما يأمل أوباما. الإجابة المتأنية تأتي باليابانية: «مو»!