عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الاتحاد الأوروبي و«الحاج» كاميرون

رئيس الوزراء ديفيد كاميرون يخوض مغامرة قد تدمر حياته السياسية.
رفع رايته فوق بارجة الخضوع للاتحاد الأوروبي بينما يبحر أكثر من نصف ناخبي بريطانيا في أسطول معارض؛ بعض سفنه يوجه البوصلة بعيدًا عن مياه الفيدرالية الأوروبية والبعض الآخر لم يكتفِ بتوجيه مدافعه نحو بروكسل بل بدأ إطلاقها تجاه سفن تبحر بالعلم الكاميروني.
يوم الجمعة المقبل نرافق كصحافيين الزعيم البريطاني ليواجه 27 زعيمِا آخر في قمة مجلس الاتحاد الأوروبي، التي وعد الناخب بأن يعود منها بتعهد من المجلس بإصلاحات يطالب بها البريطانيون؛ ومعظمنا يتفكه متنبئا بخيبة أمل لم يتوقعها رئيس الوزراء.
المخاطرة التي غامر بها كاميرون لها نصلان قد يرتدان إلى صدره؛ الأول مفاوضته على قضية فرعية (منع المهاجرين الأوروبيين من منح الدعم الاجتماعي قبل العمل ودفع الضرائب لأربع سنوات مدعيًا أن ذلك سيقلل جذب بريطانيا للمهاجرين، بينما جوهر القضية هو إعادة السيادة التي فقدها برلمان وستمنستر لمفوضية بروكسل غير المنتخبة). النصل الحاد الآخر ممارسات كاميرون التي تفقده مصداقيته مع الناخب.
في اجتماعات مجلس الوزراء طوال الأسابيع الستة الماضية ذكرهم كاميرون «بالمسؤولية الجماعية» المشتركة (collective responsibility)أي الالتزام بخط الحكومة. ولأن ثلث عدد الوزراء يدعمون تيار الانفصال عن أوروبا في حال عدم حصول لندن من المجلس الأوروبي (المكون من زعماء الدول الـ28) على تعهد قانوني بعدم المضي في مشروع الوحدة الفيدرالية. كما يخفي وزراء آخرون رغبتهم في الخروج من الوحدة الأوروبية. اتخذ المجلس قرارًا بعدم مشاركة الوزراء في حملة الدعاية (مع أو ضد) إلا بعد القمة الأوروبية التي ستبدأ يوم الجمعة في بروكسل.
لكن كاميرون ناقض التعليمات التي أصدرها للوزراء حيث استغل أربعة لقاءات إذاعية وخمسة خطابات في مناسبات عامة بالترويج للبقاء في الاتحاد الأوروبي. طرق غير نظيفة وشريفة في الدعاية أدت إلى ارتفاع نسبة الراغبين في الخروج من الاتحاد الأوروبي بخمس نقاط في المائة، وخسر معسكر البقاء في الوحدة الأوروبية ثلاث نقاط أخرى بعد خطوة مناقضة للديمقراطية: وجه كاميرون نواب حزب المحافظين في البرلمان إلى «تجاهل» رغبة الناخبين في الدائرة رغم أن أغلبيتهم يعارضون فكرة الفيدرالية الأوروبية.
تعود الناخب (في أي مكان) على تحرِبَة (أو حَرْبَأة) رجل السياسة ليظهر بلون البيئة السياسية والاجتماعية التي يقف وسطها؛ لكن التراجع عن الوعود الانتخابية في حال الاتحاد الأوروبي بالذات له بالغ السلبية في ذاكرة البريطانيين لتكرر خداع المؤسسة الحاكمة للشعب.
في عام 2002 سألت رئيس الوزراء وكان وقتها توني بلير (سبعة أعوام قبل أن ينكث وعده بإجراء استفتاء على «الدستور الأوروبي الموحد» نحو وحدة اندماجية أوروبية) عن موقفه إذا صوت الشعب بالرفض، فأجاب ضاحكا: «سنظل نعيد الاستفتاء ونعيده.. ونعيده.. حتى يجيب الشعب بنعم!».
عندما صوت الآيرلنديون قبل ست سنوات برفضه وكشفت الاستطلاعات رأيًا عامًا مشابهًا في فرنسا وهولندا، لجأ الساسة للخديعة.
تشاور بلير («تآمر» في وصف البعض وقتها) مع زعماء أوروبيين فغيروا معاهدة «الدستور الموحد» اسمًا لا مضمونًا إلى «معاهدة لشبونة» التي وقعها بلير في ديسمبر (كانون الأول) 2009 متهربًا من الاستفتاء. ارتكب حسن مخالفة، فغير اسمه بعد أداء الحج إلى «الحاج حسن» ليتهرب من مواجهة القانون!
حتى إجبارها على الاستقالة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1990 كانت رئيسة الوزراء الحديدية مارغريت ثاتشر (وكانت متحمسة لمشروع السوق الأوروبية وليس الفيدرالية الأوروبية) مصرة بعناد فولاذي على إبقاء مسافة سياسية ومالية - اقتصادية بين بريطانيا ومسار قطار الوحدة الأوروبية (بسائق ألماني و«عطشجي» فرنسي). وكانت إجابتها الدائمة «لا..لا.. لا يا سادة»، في مفاوضاتها مع زعماء أقوياء دهاة كجاك شيراك والمستشار الألماني هليموت كول وأصرت على استعادة ثلث ما تدفعه بريطانيا لميزانية المجلس الأوروبي (rebate)، حتى تنازل بلير عن نصف الاستعادة (وارتفعت مساهمة بريطانيا اليومية إلى 55 مليون جنيه إسترليني - قرابة 80 مليون دولار – ودفعت بريطانيا في نهاية 2014 ما يساوي 800 مليون جنيه إضافية لأن اقتصادها تحسن بنسبة كبيرة).
موقف ثاتشر المتشدد في الثمانينات والتسعينات كان فرامل تبطئ اندفاع قطار المفوضية. معاهدة ماستريخت وقعها جون ميجر بعد استقالتها بأكثر من عامين، وخدعت حكومته الشعب بإخفاء السلبيات كفقدان برلمان وستمنستر سيادته على تعديل القوانين لصالح مفوضية بروكسل، وراء وعود بإيجابيات كتحسين حقوق الإنسان.
في 1975 صوت البريطانيون (في أول وآخر استفتاء) بالموافقة على الانضمام للسوق الأوروبية المشتركةEuropean economic community (أدى القبول إلى الاندماج الأول فتغير الاسم إلى المجتمع الأوروبي European community....).
وصف نابليون بونابرت بريطانيا بأمة من أصحاب المتاجر الصغيرة. أسس البريطانيون إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس بالتجارة قبل الفتوحات العسكرية، فقبلوا سوقًا مشتركة تروج تجارتهم، لكن أخفى الساسة الهدف الحقيقي من المشروع الأوروبي الذي يتفاوت مفهومه من بلد لآخر.
البلدان النواة المكونة للسوق الأوروبية المشتركة (قبل انضمام بريطانيا في 1973) فرنسا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ وألمانيا (الغربية وقتها) عانت كلها بلا استثناء من احتلال عسكري نتيجة حروب أو حكم نازي - فاشي؛ ومن ثم فالتحول إلى دولة فيدرالية كبرى يعتبر مفهومًا إيجابيًا لشعوبها، إذ يقلل من كل فرص الحرب ونمو تيارات قومية متطرفة كالفاشية والنازية (ويشاركها في ذلك شعوب عانت من الحكم الشمولي كالبلدان التي انضمت حديثًا وكانت ضمن حلف وارسو أو جمهوريات سوفياتية).
الوحدة الأوروبية مفهوم سلبي في بريطانيا التي عرقل شارل ديغول دخولها إلى السوق المشتركة لسنوات لوعيه بالطبيعة البريطانية الفردية والتجارية المختلفة عن العقليات الأوروبية، وأيضا اعتبر بريطانيا حصان طروادة للسياسة الأميركية يتسلل إلى حصن يحرس هو مدخليه الغربي والجنوبي وألمانيا تحرس مدخليه الشرقي والشمالي.
وبينما يعتبر الشعب الألماني الفيدرالية حماية من تكرار تجربة النازية فزعماؤها يخفون أهدافهم بعيدة المدى الاستراتيجي عن الشعب. المستشارة أنجيلا ميركل تحاول تحقيق (بالاقتصاد والفيدرالية) ما عجزت ألمانيا عن إنجازه بحربين عالميتين: حلم بسمارك أي أوروبا موحدة تحت النفوذ الألماني. وما دعوة مليون مهاجر يتكاثرون بنسب تبلغ أربعة أضعاف الأوروبيين إلا خلق شرائح ديموغرافية تدين لسنوات قادمة لها ولألمانيا بالولاء.
مفهوم يزيد من سلبية الاتحاد الأوروبي لدى البريطانيين التي تشكل الحرب العالمية الثانية قاعدة مهمة في وعيهم الجماعي وإذا خيبت قمة بروكسل آمال كاميرون فليبدأ تحضير جنازته السياسية.