خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

قل ولا تقل

ربما تصادف أحد المثقفين العراقيين لا يتذكر سورة الفاتحة أو آية الكرسي ولكنك لن تجد واحدًا منهم لا يتذكر العنوان «قل ولا تقل». إنه عنوان سلسلة إذاعية ثم سلسلة صحافية طويلة قدمها الدكتور مصطفى جواد عبر عدة سنوات من العهد الملكي ثم تحولت إلى نكتة على ألسنتهم جميعًا. لا تقل هذا نظام ديمقراطي وقل هذا نظام ديمضراطي.. وهلم جرا.
كان فحول النحو العربي دائمًا في التاريخ من الأعاجم اعتبارًا من سيبويه إلى نفطويه! ولا عجب أن أضيف إليهم في عهدنا هذا رجلا من تركمان العراق، الدكتور مصطفى جواد الذي ولد في قرية ديل تاوه ولكنه أنفق كل حياته في مفردات اللغة العربية وتفاعيلها واشتقاقاتها، أصبحت في الواقع جزءًا من حياته، أو قل جل حياته. فعندما أصيب بنوبة قلبية ونقلوه إلى المستشفى، طببه الطبيب الاختصاصي بأمراض القلب، شوكت الدهان. فحصه مليًا ثم قال له: دكتور مصطفى، إنك تعاني من جلطة قلبية. فأجابه فورًا وهو في سكرات الموت: دكتور لا تقل نوبة قلبية بل قل غلطة قلبية!
سرت عدوى قل ولا تقل للباعة والصنايعية بعد أن سمعوا الكثير منها على الراديو فراحوا يتندرون بها كلما جاءهم. أستاذ، لا تقل نص دينار بل قل نصف دينار ولا تقل كيلوكرام بل قل كيلوقرام.
ويظهر أن هذه القفشات من الالتفاتات اللغوية قد حببته لقلوب الناس. فكان من أوائل من طلب زيارته عبد الكريم قاسم، الزعيم الأوحد. أكرمه ثم سأله عما قد يريده من الجمهورية الخالدة. فقال له: هو شيء واحد. ألا تقل جمهورية بفتح الجيم وإنما جُمهورية بضم الجيم فالجمهور من وزن فُعلول مثل عُصفور، كما قالت العرب.
ثم قالوا للزعيم الأوحد، إن هذا الرجل لا يفهم أي شيء في السياسة ولا يعرف أحدًا من رجالها. فلو سألته عن أبسط شيء يحرص كل عراقي على معرفته: وهو من هو مدير شرطة بغداد، لما عرفه. ولكنك لو سألته من كان مدير الشرطة في زمن هارون الرشيد لأعطاك اسمه فورًا وشفعه بذكر محل وتاريخ ولادته ومتى عين مديرًا للشرطة ومتى طرده الخليفة ومتى توفي في السجن وانتقل لرحمة ربه.
ويظهر أنه كان يحب ركوب الجمل لأنه يعرف كل الكلمات المائتين في وصف الجمل. ولهذا كان يتطير من ركوب الطائرات فهي لا تسير في الصحراء. كان يعتذر عن عدم حضور أي مؤتمر عالمي يتعلق باللغة العربية. وخلق ذلك كثيرًا من المشاكل لوزارة المعارف في الاعتذار إليهم. كان رحمه الله يتطير من ركوب الطائرات. فلم تستطع الوزارة أن تعتذر للرئيس الباكستاني نفسه عندما دعاه لحضور مؤتمر لغوي في كراتشي. ألحوا عليه بضرورة قبول الدعوة. ويظهر أنهم استطاعوا إقناعه بعد أن ذكروا له أن المؤتمر سيكون مخصصًا لدراسة أسماء الجمل ومشتقاتها. روى لي أحد موظفي الوزارة أنه توكل على الله وسافر. فوجد السفر بالجو ممتعًا حقًا. قال الزميل، ومن حينها أخذ يتردد كل يوم ليسأل: عندكم مؤتمر آخر يتطلب السفر؟
وبصدور مجموعة قل ولا تقل مؤخرًا سيعطينا الكتاب فرصة مواتية لاستعادة ذكريات أقواله والاستفادة بمعطياتها.