أحمد محمود عجاج
TT

هل ينقذ بوتين نفسه من الرمال السورية؟

السياسة كتعريف هي القدرة على إقناع الآخرين وقولبة توجهاتهم، وعادة ما تكون شخصية القائد أو الرئيس في مجال العلاقات الدولية عنصرًا بارزًا في صناعة السياسة الخارجية لأي بلد. وإذا ما نظرنا إلى روسيا سنجد الرئيس بوتين مثالاً حيًا. فبوتين يرى العالم، بعد انهيار المنظومة السوفياتية، من منظار غالب ومغلوب. ويُنقل عنه قوله: إذا ما دخلت في مشاجرة فعليك أن تسدد أولاً، لأنك ستملك المبادرة. ويقول عنه الذين امتحنوه عندما تقدم للعمل في المخابرات، إن شخصيته محصنة من الإغراء، لكنه ربما لا يُقدّر العواقب. ولكي لا نسترسل كثيرًا، نشير إلى أن بوتين يرى، حسبما يقول عارفوه، المعادلة الدولية كالتالي: أميركا تريد أن تقزم الدولة الروسية (القيصرية) وأن خطأ الاتحاد السوفياتي كان تبنيه مبادئ أخلاقية، ودعمه المالي لدول ظهرت لاحقا أنها جاحدة، ويرى الحل في أن تعتمد روسيا النهج الرأسمالي، وتُنمي وحوشها الرأسمالية لتبتلع الوحوش الرأسمالية الغربية في حال تعارض المصالح. بوتين يحاكي العظماء، ولهذا علق على حائط مكتبه صورة نابليون وستالين.
هذه الصفات جاءت في كتابات وشهادات مقربين من بوتين، وهي تدلنا بوضوح على كيفية تفكير هذا الرئيس؟ وبالفعل فإن تحركه في جورجيا وتجزئتها، ودخوله إلى أوكرانيا لمنعها من الانضمام إلى المعسكر الرأسمالي الأميركي، وضمه جزيرة القرم، وإضرامه حربًا أهلية في شرق أوكرانيا، وأخيرًا دخوله إلى الرمال السورية، يؤشر بشكل واضح إلى طبيعة الرئيس الروسي. وقد أذهله بالطبع ما كتب عنه بأنه سياسي بارع، ومجازف، ويعرف كيف يخلط الأوراق، وشجعه على هذه اللعبة تقاعس بوش الابن في جورجيا، وتخاذل أوباما وأوروبا في أوكرانيا، ودهشة الجميع في سوريا، وظن، ولا يزال، أنه السيد الذي بوسعه فرض بلاده على خريطة العالم، لا بل إعادة رسم كثير من المصالح، وبالتحديد في مناطق تاريخية مثل الشرق الأوسط، وفق حساباته وتصوراته القيصرية. ولا نبالغ إن قلنا قيصرية؛ لأن بوتين منذ أن تسلم السلطة اعتمد النظرية الأرثوذكسية، والقومية الروسية، ليكونا دعامة لحكمه الديمقراطي في المظهر، الاستبدادي في الجوهر.
على عكس مغامرته في جورجيا، يواجه بوتين الآن صعوبة في أوكرانيا ليس سببها المقاومة الشجاعة له، بل المعارضة الأوروبية والأميركية لخطوته، وفرض تلك الدول عقوبات عليه أسهمت في تعميق أزمته الاقتصادية التي ازدادت حدة مع تراجع أسعار النفط، وزيادة الفاتورة المالية المترتبة على تدخلاته. ففي أوكرانيا بدأت مقاومة مسلحة ضده في جزيرة القرم كان آخرها تفجير محطة الكهرباء في الجزيرة وانقطاع التيار الكهربائي عن نصفها، واستمرار المعارك في شرق أوكرانيا، وفي الشيشان تململ تاريخي، وفي جورجيا غضب مكبوت. وتبدو مشكلة بوتين في البلدان المجاورة له أقل بكثير من أزمته في سوريا لا سيما أنه اعتقد أن تدخله سيقلب الطاولة ويجبر الجميع على الاعتراف به، وبالتالي فرض تسوية روسية من باب الأمر الواقع. ففي سوريا يواجه ثلاث مشكلات مترابطة تتمثل في الواقع الإقليمي، والموقف الأميركي، وظاهرة ما يسمى «الإرهاب ».
جاء التدخل الروسي على خلفية تضاد إقليمي قلما سجلته العلاقات الدولية، وسببه الخلاف الإيراني السعودي المفتوح على كل الاحتمالات. فالرياض قررت على ما يبدو المواجهة، وإيران عازمة على ألا تخسر ما حققته. فالدولتان وفق هذه المعادلة ماضيتان في المنازلة لأبعد الحدود، لأن كلا منهما تعرف أن ربح إحداهما هو خسارة فادحة للأخرى.
وهنا يدخل العامل التركي كونه مرجحا بمعنى أنه قادر على قلب المعادلة إذا ما انحاز إلى طرف دون الآخر. لكن القيادة التركية هي الأخرى لها حساباتها، وكان من السهل الاستجابة لهذه الحسابات، قبل التدخل الروسي، وتعاظم الخطر الانفصالي الكردي. بعبارة أخرى، تركيا لم تعد مُرجحا حياديا بل غطست في اللعبة السورية، وأصبح لها مصالحها المتضاربة مع المصالح الروسية، وبالتالي أصبح لزامًا عليها الانحياز للطرف السعودي بعدما انحازت طهران للطرف الروسي. لتركيا مطلب أساسي وهو أنه لا يمكن السماح بوجود كيان كردي انفصالي في سوريا، وللسعودية رغبة في أنه لا يمكن القبول بالأسد في سوريا المستقبل.
إن حادثة إسقاط الطائرة الروسية التي عبرت الأجواء التركية هي رسالة تركية واضحة لبوتين بأن عليه أن يحترم مصالح تركيا، ورسالة أيضًا إلى الدول الأوروبية بأن التصالح مع بوتين وإعطاءه الحق بترتيب البيت السوري في فيينا مرفوض، ما دام لا يحظى بموافقة تركيا. فالقيادة التركية تعتقد أن أوروبا بالذات تريد أي تسوية في سوريا لضمان هزيمة «داعش»، ولوقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا لما يسببه من خلل في المعادلة السياسية الأوروبية الداخلية، وبالتحديد صعود اليمين المتطرف.
وقد ذعرت أوروبا جدًا من المواجهة التركية مع الروس لأنها تقضي على فرص التسوية في فيينا، ولأنها تجر أوروبا إلى مواجهة لا تريدها. وقد التقط الرئيس الأميركي هذا الواقع واستغله أيما استغلال من خلال تأكيده على أن روسيا لن تربح الحرب في سوريا، وأن دعمها للأسد لا تقبل به أميركا ولا حلفاؤها بالمنطقة، وأن على روسيا أن تقبل بثمن إزاحة الأسد لحل تلك الأزمة. فالرئيس الأميركي يجد نفسه محصنًا ضد الإرهاب، ويرى أن سياسة احتواء «داعش» ناجحة ولو لزمها وقت على عكس دول أوروبا.
وجد بوتين بعد حادثة الطائرة أنه خسر التضامن الأميركي، وخسر الاندفاعة الأوروبية، وبدا مرغمًا بزيادة فاتورة تدخله في سوريا عبر إدخاله صواريخ متطورة، وطائرات ومزيدًا من الخبراء والضباط. بوتين مضطر الآن لرفع سقف المواجهة، لكنه يعلم أن الثمن باهظ، وأنه يقاتل على أرض بعيدة، وأن من يقاتلونه يجدون فيه عدوًا دينيًا، ويجدون الدعم من البيئة المحيطة، وهم قادرون، عبر البوابة التركية، والسعودية، على إغراقه في الرمال السورية. ويعرف بوتين أيضًا أنه كلما زاد بقاؤه في سوريا شكك شعبه بجدوى الحرب، وصعوبة تبرير هذا الإنفاق المالي والبشري على أرض بعيدة، ويدرك أيضًا أن الغرب الذي يريد اصطياده، حسب تفكيره، جاهز للانقضاض عليه. هنا يبدو بوتين في الأزمة السورية بالذات بارعًا في التكتيك، وجاهلاً في الاستراتيجية. أمام بوتين مخرج واحد يمكن التقاطه للخروج من هذه الأزمة وهو انفتاحه على الحل السياسي المدعوم غربيًا، وسعوديًا وتركيًا، والمستند إلى خروج الأسد من المعادلة السياسية، وتشكيل سوريا جديدة، وبهذا الحل يخسر بوتين صورة الرجل القوي، لكنه يكسب حماية المصالح الروسية، والعلاقات الجيدة مع العالم العربي، وإعادة انفتاحه على الغرب وتحسين اقتصاده.
هل يمكن أن يقدم بوتين على ذلك؟ إذا صدقنا ما قالته المخابرات الروسية عنه، وما قاله أصدقاؤه فإن الجواب سيكون حتمًا بالنفي، وعليه سيغرق بوتين أكثر في الرمال السورية، وتغرق معه المنطقة في المزيد من القلاقل والدماء.