هدى الحسيني
صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، عملت في صحف ومجلات منها: «الأنوار» في بيروت، و«النهار» العربي والدولي و«الوطن العربي» في باريس ، و«الحوادث» و«الصياد» في لندن . غطت حرب المجاهدين في افغانستان، والثورة الايرانية، والحرب الليبية - التشادية، وعملية الفالاشا في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الاولى. حاورت الخميني والرئيس الأوغندي عيدي أمين.
TT

الغارات الجوية على «داعش» لا تكتمل إلا بقوات برية

بعد باريس، ضرب الإرهاب باماكو، عاصمة مالي، واتهم تنظيم «المرابطون» (القاعدة) بأنه وراء احتجاز رهائن في فندق «راديسون»، والتنظيم كان أيضًا وراء عملية أسبوعية «شارلي إيبدو» في باريس مطلع هذا العام.
تشير العمليتان الإرهابيتان إلى أن تنظيمي «داعش» و«القاعدة» على استعداد لمواصلة إرهابهما ونشر الرعب. زعيم «المرابطون» الجزائري مختار بلمختار «قاعدي» حتى النخاع وضد «داعش».
«المرابطون» قاعدة ضخمة في مالي، والهجوم على «راديسون» له علاقة بالمنافسة الشديدة بين «القاعدة» و«داعش». التنظيمان يشنان حربًا ضد الأعداء القريبين والبعيدين، لكن رغم المنافسة بينهما، فإن هناك خيط تنسيق قائم بينهما. أيمن الظواهري، زعيم «القاعدة»، دعا أبو بكر البغدادي، زعيم «داعش»، قبل أسابيع، إلى التنسيق وضم الصفوف ضد العدو الغربي.
من المؤكد أن التنظيمين يريدان تنفيذ عمليات إرهابية، وربما قسما الدول بينهما لنشر الفوضى والرعب؛ إذ يجب ألا ننسى أن للاثنين الآيديولوجيا ذاتها، والاثنين هدفهما الأول تدمير الدول «العلمانية» القائمة وإقامة «الأمة».
قبل هجمات باريس كنا نراهما يختلفان في التكتيك؛ كان «داعش» يفضل قتال العدو القريب، خصوصًا من يسميهم «المرتدين» الذين خانوا الإسلام، ويستحقون الموت، ومحاربة المسيحيين والأقليات الأخرى، أما «القاعدة» فإنه يركز على العدو البعيد.
عملية «شارلي إيبدو» استهدفت مجموعات معينة من المجتمع الفرنسي؛ صحافيين ويهودا (السوبر ماركت). عمليات «13 نوفمبر» أصابت كل واحد، خصوصًا ما جرى داخل مسرح «باتاكلان»؛ إذ لكل فرنسي صديق، أو ابن، أو ابنة أو رفيق. هذه العمليات غيرت عقلية المدينة، طبعًا سيعود الباريسيون إلى الوضع الطبيعي. بعد قنبلة «هيروشيما» عاد الناس إلى الحياة، لكن تغيرت نوعية الحياة بشكل جذري. سياسيًا رأينا تغيرًا كاملاً في خطاب الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند. الأمر لم يعد كما كان، والحياة ستستمر كأن شيئًا لم يكن، والمحبة ستنتصر على كل شيء. هناك ثغرات أمنية واضحة، والفرنسيون ينتظرون الحقيقة، وفي الوقت نفسه الحرب على «داعش».
عالميا المواقف اقتربت فيما بين القوى الرئيسية، لكنها لم تلتق بعد حول موقف واحد موحد.
اللافت في أنطاليا وخلال قمة «الدول العشرين» إحساس كل الدول المشاركة بأنها ضحية. روسيا كانت تعرف أن «داعش» أسقط طائرتها، واعترفت بالتالي أنها والآخرين يشتركون ضد عدو واحد، وهو «داعش»، وأنه من الضروري أن يقوم تحالف واسع تلعب فيه روسيا دورًا قياديًا.
المشكلة في تحقيق تحالف متفق عليه تكمن في نوعية الشروط التي تحرك هذا التحالف، وهنا لا يزال الأمن القومي لكل دولة يلعب دورًا تقسيميًا.. كل ما يخرج من روسيا يشير إلى أن أي تحالف لمحاربة الإرهاب يجب أن يكون بالاتفاق مع الدولة السورية، أي أخذ الإذن من الرئيس السوري بشار الأسد، وهذا غير مقبول من الدول الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن، لذلك لا تزال هناك عقبات كبيرة، رغم أن الدول المختلفة حول الكيفية بدأ كل منها يضع خطته لتصل في النهاية إلى طرق متشابهة. قال ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، إن كل طرف يحتاج إلى تقديم تنازل ما، لكن هل روسيا مستعدة للتخلي عن الأسد في وقت ما؟
من الصعب قراءة ذلك الآن.. «الكرملين» يصر على أن هذه المسألة ليست مطروحة.. لكن لوحظ في مؤتمر أنطاليا أن بوتين خلال مؤتمر صحافي مغلق مع مراسلي الإعلام الروسي فقط، تحدث عن دعم - على الأرض - للمعارضة السورية المعتدلة التي تعارض الأسد. وهذا ما كان يرفضه بالمطلق قبل عمليات باريس وإسقاط الطائرة الروسية فوق شرم الشيخ. وفي حال تحول هذا القول إلى فعل، فإنه يعني تغييرًا حاسمًا متوقعًا في الموقف الروسي.
من ناحية أخرى، من الخطأ الاعتقاد بأن الغرب لم يغير هو الآخر موقفه من الأسد.. علنًا يردد موقفه المعروف، وبعد كارثة باريس عقد اجتماع فيينا في اليوم التالي للعمليات، حيث التقت الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وعدة دول خليجية وإيران، في محاولة لإيجاد خطة سلام لسوريا، وبدا أن العملية التي تشرف عليها الأمم المتحدة تستمد الزخم مما تعرضت له باريس.
هذا التسلسل دفع البعض إلى القول إن السلام سيكون بعد أسابيع، لكن هذا أيضًا أمر سابق لأوانه، فأحد الأهداف الطموحة هو بدء المفاوضات حول ذلك السلام قبل أو بعد نهاية السنة الحالية، وهذا أمر غير ممكن استنادًا إلى تجارب سابقة. من الصعب تحريك هذه المفاوضات، لأنه يجب أن يتفق المشرفون حول مَن يتكلم باسم مَن، روسيا تعتقد أنها في المقدمة، لأنها أنقذت نظام الأسد حاليًا، لذلك وزعت لائحة ضمت أسماء من النظام مستعدة للمجيء إلى طاولة المفاوضات.. هي تعرف أن من الصعب على المعارضة والدول أن تتفق على فريق ومن سيعد غير متطرف وبالتالي فهو مقبول أن يتحدث باسم المعارضة، ومن سيعد متطرفًا ويتم إبعاده.
بعد عمليات باريس بالتحديد، تضاعفت الغارات الجوية.. روسيا لأول مرة استهدفت «داعش» بصواريخ «25» أطلقت من قواعد في أوسيتيا وروسيا. أميركا أيضًا قصفت شبكة توزيع نفط «داعش» من شاحنات ومنشآت ضخ رئيسية، لكن مقاتلي «داعش» انخرطوا بين المدنيين، لذلك تبقى الحاجة إلى قوات برية تدخل من بيت إلى بيت، بحثًا عن «الداعشيين»؛ إذ لا يمكن محاربة هذه المجموعة وآيديولوجيتها وإجرامها من الجو. «داعش» في عملياته الإرهابية يعتمد على «قواته البرية» التي نفذت أخيرًا عمليات باريس فقلبت القارة الأوروبية. مقاتلة الراديكالية والتطرف تتطلب تسليح قوات برية قادرة على المواجهة، بحيث لا يبقى مجال يهرب إليه المتطرفون إن كان في سوريا أو في العراق. كشفت عمليات باريس ثمن تردد الغرب بالنسبة إلى سوريا.. هناك حاجة إلى استراتيجية صحيحة، كي لا يواجه الغرب من جديد فشلاً بسبب تدخله. في هذا المجال ينتاب بعض أصحاب القرار من الغربيين الفزع من الافتراض بأنه من مسؤولية القيادة الغربية إيجاد حل لمشكلات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتطرف في فهم الإسلام. وهناك من يعتقد أن سوريا هي ضحية تراكمات عمليات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وإطاحة الأميركيين «طالبان» في أفغانستان عبر سياسة تغيير الأنظمة التي شملت العراق، فأدى ذلك إلى الاعتقاد بأنه لا يمكن مساعدة سوريا، لأنه لم تعد هناك شهية للتدخل العسكري البري المقرون بالفشل.
بعد عمليات باريس، وما تلاها من تحرك، هناك ما يشبه التأنيب؛ إذ بعد عمليات باريس استهدفت الغارات مقرات «داعش» وأهدافه، فلو كانت الدول أخذت محاربة «داعش» بجدية، ما كان لهذه الأهداف أن تبقى قائمة.. ولأن الغرب غير مستعد لإرسال قوات برية، فالتفكير الآن منصب حول قوات عسكرية إقليمية تدعمها الغارات الغربية.
تبرز تركيا، لكن المشكلة مع تركيا أنه ينظر إليها على أنها تقف إلى جانب المتطرفين، ومن بينهم «داعش»، لأنها قررت أن تكون حربها على الأكراد. تركيا في الحلف الأطلسي، وجيشها قوي وفاعل، وقد تحصل على دعم «الأطلسي» بطريقة ما، لكنها لن تقاتل «داعش»، لأن الغرب يرى أيضًا في الأكراد قوة قتالية مهمة. وتبرز أيضًا مصر، إنما مشكلتها أنها تقاتل «داعش» في شمال سيناء، فهذا التنظيم الذي فشل في محاربة إسرائيل نجح في شن هجمات على القوات والمنشآت المصرية.. مصر مشغولة، إنما لديها القدرة، لكن هل عندها الإرادة بأن تنضم إلى التحالف في محاربة «داعش» في سوريا.. الأمر مستبعد. هناك أمر آخر.. روسيا هي من يدير الوضع في سوريا، وبالتالي لا يمكن نشر قوات في سوريا من دون التنسيق معها.
ويعود التفكير الغربي إلى الاستعانة بالقبائل السنية في سوريا وبعمليات محدودة، إنما قاسية جدا، تقوم بها القوات الخاصة الغربية على طريقة: «اضرب واهرب».
إذا عجز العالم عن إيجاد قوات برية لمحاربة «داعش»، واستطاع التنظيم أن يظهر على أنه لا يوجد أحد قادر على إلحاق الهزيمة به، عندها سيجذب كثيرًا من المجندين إلى صفوفه من كل دول العالم القريب والبعيد، وعلينا بالتالي الاستعداد لانتشار خلاياه النائمة... ولعمليات إرهابية متكررة.. لكن، هل هذا هو العالم؟