توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

الأسئلة الباريسية

أحداث مثل الهجوم الدموي في باريس قبل أسبوعين، تعيد إلى الحياة أسئلة جالت كثيرًا وجودلت كثيرًا، لكنها بقيت حائرة.. ليس لصعوبتها، بل لأن إجاباتها تحيل بالضرورة إلى مشكلة أكبر.
يتعلق السؤال برؤيتنا للغرب، «هاجس الغرب» حسب داريوش شايغان. وجوابه يحيل إلى سؤال أكثر تعقيدًا عن رؤيتنا لذاتنا نحن المسلمين ودورنا في العالم، أي الهوية «الكونية» التي نريدها لأنفسنا. إن اكتشاف الذات وتحديد المكان هو التمهيد الضروري لاكتشاف العالم وفهمه وتحديد المسافة بينك وبينه.
طبقًا للمرحوم محمد أركون، فإن رؤية المسلمين للغرب تشكلت أولاً في سياق محاولة جادة لفهمه والتعلم منه، ثم منافسته. كان هذا مسار النخبة الصغيرة التي تنسب إليها بذور الوعي الأول، بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. بعد مرحلة النهضة هذه، حدث انتكاس قادنا إلى مرحلة ثانية، يسميها «مرحلة الثورة»، شهدت تحولاً من محاولة فهم الغرب والتعلم منه، إلى الرفض المطلق له، ومحاولة إحياء القوة الذاتية من خلال التركيز على خطوط التفارق بيننا وبينه، باسم القومية في أول الأمر، ثم باسم الدين، كما هي الحال حتى الآن.
كان المرحوم مالك بن نبي قد أشار إلى نتيجة هذا الخيار، في قصة يعرفها الجميع، حين قارن بين موقف الياباني الذي ذهب إلى الغرب تلميذًا يتعلم كي يستغني عن معلمه، وموقف المسلم الذي ذهب زبونًا يشتري منتجات جاهزة. ونعرف بقية القصة حين نقارن حالنا اليوم بحال اليابان.
طرف القصة الآخر أوضحه نجم الثاقب خان، المفكر الباكستاني الذي سجل ملاحظات قيمة عن فترة عمله في طوكيو، في كتابه «دروس من اليابان للشرق الأوسط». وهو يرى أن إخفاقنا في العلاقة مع الغرب، سببه أننا اعتبرنا هويتنا سدًا، أما اليابانيون فقد اعتبروها مجرد موضوع تمايز قابل للتدوير. الهوية في رأيه فرس جموح يمكن أن يقود عربة التقدم إذا ربط إليها، لكنه قد يقلب العربة إذا اعترضها.
يعتقد شايغان أن موقفنا الملتبس من الغرب، المندهش من تفوقه حينًا والكاره له حينًا آخر، عرضٌ لقلق عميق في داخل نفس المسلم، سببه عدم استيعاب ظاهرة تاريخية كبرى هي الحداثة في معناها الواسع. نحن لم نحاول استيعاب الحداثة في دلالتها الفلسفية الخاصة، بوصفها تجربة أبدعها الإنسان من أجل تجاوز قيود الطبيعة، وصولاً إلى السيطرة على عالمه، بل تعاملنا معها من خلال تعارضاتها مع موروثنا النظري وتصوراتنا عن ماضينا. ولهذا، فكل حكم عليها ارتدى منذ البدء رداء التقويم الأخلاقي، مدحًا أو قدحًا، لا الموضوعي الذي يسعى للفهم ثم يشارك في تطوير الفكرة.
نحن اليوم مجرد مستهلك لمنتجات الحداثة الغربية. وكان حريًا بنا أن نجتهد للمشاركة في بناء العالم، وفي إنتاج العلم الذي منح الغرب القوة والسيادة. المشاركة في صناعة عالمنا رهن باستيعابنا ديناميات هذا العالم وأسرار حركته. وهذا لن يتأتى ما لم نتعلم، ولن نتعلم شيئًا من العالم ما لم نتعارف معه. أول التعارف هو التواضع والانفتاح الكلي والصريح. مكونات هويتنا.. قناعاتنا وتقاليدنا، منتج بشري ورثناه، وقد كان مفيدًا في زمن منتجيه. أما اليوم فليس سوى حجاب يمنعنا من فهم العالم الذي نعيش فيه تابعين متكلين على غيرنا.
يجب أن نضع جانبًا مشاعر العداوة مع العالم.. أن نعيد صوغ هويتنا بصفتنا شركاء في هذا العالم، لا بوصفنا فئة مصطفاة تنظر إليه من الأعلى، ولا بوصفنا جمعًا من المندهشين المستسلمين المنكرين لذاتهم. نحن قادرون على الفهم والمشاركة والمنافسة إذا اخترنا طريق الانفتاح والتفاهم، بدل الارتياب أو الكراهية.