أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

لماذا تأخذ «الحرب الصحيحة» منحى خاطئًا؟

دأب وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قبل أشهر قليلة فقط، على تقديم أفغانستان بوصفها قصة نجاح في السياسة الخارجية لإدارة باراك أوباما، حيث كانت خطة الرئيس الرامية لاستكمال الانسحاب العسكري الأميركي من البلاد على وشك الانتهاء، كما كان الحديث يدور حول تأسيس «حوار» مع طالبان بوساطة قطرية.
بيد أن نوبة محدودة من الذعر أصابت البيت الأبيض أوائل هذا الشهر مع وصول أنباء حول استيلاء طالبان على قندوز، سادس أكبر مدينة أفغانية، في حين ولّى الجيش الأفغاني الذي درّبته الولايات المتحدة، الأدبارَ من دون قتال. لقد كانت هزيمة مذلّة لحقت بحامية قندوز المؤلّفة من 7 آلاف رجل، الذين تركوا وراءهم أسلحتهم الأميركية الجديدة لتغنمها قوة طالبان المكونة من ألف رجل فقط.
واضطرت قوة «الناتو» التي تقودها الولايات المتحدة، والتي ما زالت في أفغانستان، إلى أن ترضى بما تيسّر من جنود لا يتجاوز عددهم بضعة آلاف ونحو 12 طائرة مقاتلة، لكي تشنّ هجومًا مضادًا في قندوز، حيث تمكّنت من استعادة السيطرة على أجزاء من المدينة بعد أسبوع من القتال. إلا أن طالبان كانت قد أثبتت بالفعل وجهة نظرها.
لقد برهنت طالبان على أن الرئيس الأفغاني أشرف غني وحلفاءه في «الناتو» لا يستطيعون، بفضل الانسحاب الذي قاده أوباما، الدفاع عن كل شبر من الأراضي الأفغانية. واضطر غني وحلفاؤه إلى سحب القوات من مزار شريف وبادخشان لشنّ الهجوم المضاد في قندوز، لتغتنم طالبان الفرصة وتبسط سيطرتها على إقليم واردوج و13 قرية استراتيجية أخرى بالقرب من الحدود مع طاجيكستان.
وتسجل طالبان بالفعل حضورًا قويًا في عدة ولايات أفغانية، لا سيما فراه، ونيمروز، وهلمند، وقندهار، وباكتيكا، وأوروزغان، حيث تغيب الحكومة المركزية عنها فيما عدا المدن الرئيسية التي لا تعفيها طالبان من دخولها من حين لآخر، ولو لبضعة أيام فحسب، كي تستعرض علمها وترهب العناصر الموالية للحكومة، ولا مانع من ارتكاب بعض أعمال النهب قبل المغادرة.
طالبان نفذت ذلك بالضبط الصيف الماضي في «موسى قلعة»، على الحدود مع باكستان، وفي لشقرغاه، عاصمة ولاية هلمند. كما نفذت هجومًا مثيرًا، وإن باء بالفشل في نهاية المطاف، ضد أتشين، وهي قاعدة كبيرة للجيش الأفغاني في نانغارهار. كما شنّت عملية نهب كبرى في منطقة تيرغاران الشمالية، حيث سلبت مخزونات من الطعام والأسلحة المقدمة من الولايات المتحدة.
فلماذا إذن عادت طالبان إلى المبادرة بالهجوم في هذا التوقيت؟
ربما كان من المخطط أن يتزامن هجوم قندوز مع الذكرى التسعين لقيام أفغانستان دولةً مستقلةً. ولا تعترف طالبان بالدول، حيث تعدّ الأمة الإسلامية بالنسبة إليها حقيقةً مفردةً، كما أن الإيمان وحده، وليست الجنسية، هو الذي يحدد هوية شخص ما.
كان الملا محمد عمر، مؤسس حركة طالبان وأول زعيم لها، قد نصّب نفسه أميرًا للمؤمنين، إلا أن خليفته الملا محمد أختر منصور الذي تولّى القيادة الربيع الماضي فقط، لم ينسب إلى نفسه هذا اللقب بعد.
وينعت منصور نفسه بـ«أمير الجهاد»، مؤكدًا بذلك البعد العسكري وليس السياسي في مسعى طلبان الجديد لاقتناص السلطة.
السبب الثاني وراء نشاط طالبان المحموم في الآونة الأخيرة هو شعورها بضعف الولايات المتحدة، الذي تأكد إلى حد كبير بعد إبرام الرئيس أوباما «اتفاقه النووي» مع ملالي طهران.
وكانت محادثات تقاسم السلطة الموعود بين الرئيس غني وطالبان، التي جرت بتشجيع من الولايات المتحدة، من أوائل ضحايا هذا الشعور.
وأسدل الملا منصور الستار على تلك المحادثات الشهر الماضي، وقال في بيان للقيادة الجديدة في طالبان، إن «الأميركيين يرحلون ولم يعودوا ذوي صلة. فلماذا نتقاسم السلطة عندما نستطيع عما قريب أن نحصل عليها كلها في كابل؟».
السبب الثالث قد يكمن في رغبة الملا منصور في تقديم نفسه في مظهر القائد القوي.
كان قادة طالبان تكتّموا على نبأ وفاة الملا عمر لأنهم لم يستطيعوا الاتفاق على خليفته. وبينما كانت تدعو إيران إلى تولية محمد، أحد أبناء الملا الراحل، كانت باكستان تساند الملا منصور. بل إن الفصيل الموالي لإيران ومنافسه الموالي لباكستان تقاتلا، ولا سيما في ولاية هرات، غرب البلاد، حتى أصبح من الواضح أن إيران لن تتمكّن من السيطرة على حركة سنية مثل طالبان.
وقد يكون ظهور جماعات مؤيدة لـ«داعش» تحاول منافسة طالبان أحد أسباب نشاط المسلحين المتشددين مؤخرًا.
وتقول الحكومة الإيرانية، إن أكثر من 80 جماعة من هذا التيار موجودة بالفعل في أفغانستان أو المناطق الباكستانية القريبة من حدود إيران وأفغانستان.
وما زالت هذه الجماعات صغيرة الحجم وعاجزة عن حجز مكان لها وسط كبار «الجهاديين». ويتعاون بعضها مع طالبان، بينما تمد جماعات أخرى يد المساعدة إلى المتمردين البلوش في باكستان وإيران. لكنّ الجماعات على شاكلة «داعش» يمكن أن تنمو سريعًا بفضل تدفّق المتطوعين من كل أصقاع الأرض والدعم المالي الكبير من بعض الأفراد الأثرياء في البلدان الإسلامية.
وقد يحاول الملا منصور، عبر التحول إلى الهجوم، أن يثبت لأنصاره أنه لا توجد حاجة إلى جماعات على شاكلة «داعش»، وأن الحكم الإسلامي يمكن أن يعود إلى كابل عبر طالبان.
وأخيرا، وعلى الرغم من النفي الروتيني، فإنه لا مجال للشك في أن باكستان تلعب دورًا في إعادة تنشيط طالبان.. ففي ضوء سحب الولايات المتحدة نفسها من المعادلة، يمكن أن تسقط أفغانستان تحت نفوذ تحالف إيراني - روسي - هندي، يعزل باكستان التي يعدّها غالبية الأفغان الذين ليسوا جميعهم من البشتون مثل طالبان، قوة معادية.
يذكر أن البشتون هم أكبر طائفة في أفغانستان، حيث يشكّلون ما بين 38 و40 في المائة من عدد السكان. وتحتاج باكستان إلى أفغانستان بوصفها ظهيرا يوفر لها عمقًا استراتيجيًا وقناة موصلة إلى الدول الإسلامية في آسيا الوسطى. ولا يمكن لأي حكومة باكستانية أن تسمح بسقوط أفغانستان تحت سيطرة تحالف من القوى المعادية.
ولطالما وصف الرئيس أوباما أفغانستان بأنها «الحرب الصحيحة» في مقابل «الحرب الخاطئة» في العراق. وحتى لو قبلنا بهذه الأوصاف الغريبة، فلن يصعب علينا تبيّن أنه يفرض «السلام الخاطئ» على «الحرب الصحيحة». ومن شأن انسحابه المبكّر من أفغانستان أن يؤجّج النيران الخامدة لحرب مزّقت هذا البلد منذ عام 1979.
إن الوجود الأميركي القوي هو الضامن للسلام والعملية الديمقراطية في أفغانستان ما بعد طالبان.
لكنّ مهمة إنشاء أفغانستان جديدة أفضل لم تُنجز بعد، والانسحاب الآن سوف ينظر إليه بوصفه حيلة بائسة للهروب الجبان، ونموذجا آخر لاقتناص أوباما الهزيمة من بين أنياب النصر. ومما يدعو إلى السخرية أن أوباما يمتلك الآن عددًا أكبر من القوات في العراق، أرض «الحرب الخاطئة»، مقارنة بأفغانستان بحربها «الصحيحة».
وتعد طالبان بالفعل لهجمات ضد باغلان وسامانغان ومزار شريف. وتهدف بذلك إلى تحويل البلاد إلى قاعدة أخرى لتصدير الإرهاب إلى آسيا الوسطى والصين في البداية، ثم إن عاجلاً أو آجلاً، إلى بقية العالم.