نوح فيلدمان
أستاذ القانون بجامعة هارفارد وكاتب بموقع «بلومبيرغ»
TT

الطريق إلى هزيمة التنظيم الشرس

جاءت الغارات الجوية التركية الأخيرة ضد مواقع «داعش» والقرار الحكومي التركي بالسماح للطائرات الحربية الأميركية بالانطلاق من القواعد الجوية التركية، ردا مباشرا وحاسما على الهجمات الإرهابية التي شهدتها مدينة سروج التركية مؤخرا. وتشير العلاقة السببية الأخيرة إلى ما أصبح وكأنه معضلة استراتيجية مركزية بالنسبة للتنظيم المتطرف.
من الناحية الفكرية، يعتمد التنظيم الأساليب القتالية التي عمل تنظيم القاعدة على تطويرها، وهي تدعو إلى تنفيذ العمليات الانتحارية ضد المدنيين في الدول التي يعتبرها التنظيم من الأعداء. ومن الناحية العملية، رغم ذلك، فإن أفضل سبل النجاة لتنظيم داعش ككيان شبه سيادي، هو أن يترك جيرانه السنة وشأنهم أملاً منه في أنهم لن يدفعوا بالقوات البرية اللازمة لهزيمة التنظيم المتطرف.
يأتي الهجوم التركي كأحدث الأمثلة الحية على تلك الدينامية، وقد رأينا ردة الفعل الأردني الغاضب إثر حرق التنظيم المتطرف للطيار الأردني حيًا في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. كما أتى تفجير المسجد في دولة الكويت نهاية يونيو (حزيران) الماضي بظاهرة مماثلة.
وسلط مقتل العشرات من السياح البريطانيين في تونس في نفس اليوم الذي وقع فيه تفجير المسجد في الكويت، الضوء على ذات الأمور، وإن كان بطريقة أكثر لطفًا بكل تأكيد. ليس لدى الحكومة التونسية من شك الآن بأن تنظيم داعش هو العدو الحقيقي. ولكن، وحتى هذه اللحظة، تبعد تونس كثيرًا عن معقل التنظيم الإرهابي.
أما بريطانيا، من جانبها، فتعد خصمًا قويًا للتنظيم الإرهابي، ولقد انتهز ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، الفرصة للتشديد على الدعم البريطاني للعمليات الحالية ضد التنظيم. وعلى غرار الولايات المتحدة، تعلمت بريطانيا من دروس الفشل الغربي السابق في العراق وأفغانستان، وبذلك فهي لن تكون جزءًا من المبادرات العسكرية البرية في المستقبل المنظور.
على سطح الأحداث، لن يجني تنظيم داعش أي مكاسب من استفزاز تركيا، أو الأردن، أو الكويت، أو حتى تونس. فلماذا تقع تلك الهجمات على أي حال؟ هناك كثير من الإجابات المحتملة التي هي متمايزة بقدر ما هي مترابطة.
ربما أكثر الإجابات بديهية هي أن «داعش» لم يتخلَ قط عن فكر تنظيم القاعدة من حيث تنفيذ الهجمات الانتحارية. حقيقة، أن تركيز «داعش» الرئيسي ينصب على غزو الأراضي والسيطرة عليها، وهو ما يتعارض مع استراتيجية «القاعدة» من مواجهة العدو في أقوى نقاطه. إلا أن ذلك الاختلاف في الأساليب عبّر عن أن «داعش» كخصم كبير وهائل، أكثر مما كان يشكل تنظيم القاعدة من قبل وحتى الآن. ولكن كثيرًا من أتباع «داعش» كانوا بالأساس من أعضاء تنظيم القاعدة أو المساندين له. وليس من خط آيديولوجي فاصل وواضح بين كلا التنظيمين من حيث الفكر والأسلوب، بل إن الاختلاف بينهما يكمن في الاستراتيجية. أما التفسير الآخر، فيكمن في أن «داعش» يرزح تحت حتمية ضرورية وقوية من البقاء في موقع التحدي والبروز على الصفحات الأولى في مختلف الجرائد العالمية، وهو لا يمكنه الاعتماد دائمًا على التوسع الإقليمي لقواته كي يتصدر عناوين الأخبار. وفي اللحظة الراهنة، لا يقوم التنظيم الإرهابي بأي عمليات توسعية لافتة للانتباه. إن السيطرة على الأقاليم أمر مهم من الناحية الاستراتيجية لذلك التنظيم. غير أن الهجمات الإرهابية، مع كل ذلك، تعتبر جزءًا مهمًا من استراتيجية العلاقات العامة لدى التنظيم، وتهدف إلى جذب الداعمين الجدد وتيارات متدفقة من التمويلات المتعاطفة. ولا ننسى أن ذلك التنظيم الإرهابي اعتمد في تأسيس سمعته العالمية على قطع رؤوس الصحافيين الغربيين. ولم تكن تلك الأعمال الفظيعة تخدم أي مصلحة استراتيجية عسكرية حينها. بل على العكس، دفعت الولايات المتحدة للتركيز على التنظيم المتطرف بأكثر مما كان ينبغي عليها فعله حياله. ورغم ذلك، فإن التنظيم قد حقق نوعًا معينًا من الحس الاستراتيجي: فلقد أظهر أن التنظيم غير عابئ بالولايات المتحدة وبالغرب، وأنه حقق لذاته دعاية واسعة ومستمرة.
يؤدي كل ذلك إلى شعاع ضعيف من الضياء في أفق الاحتمالات المفعم بالظلام حيال هزيمة تنظيم داعش.
في نهاية الأمر، لا يمكن هزيمة التنظيم الإرهابي إلا بتكاتف مجموعة من الدعم الجوي الأميركي والقوات البرية المحلية المتأهبة، والميليشيات، وأحيانًا قوات البيشمركة الكردية، تعد حتى الآن هي القوات البرية ذات الفعالية الحقيقية في مواجهة التنظيم المتطرف. وتحتاج الولايات المتحدة بشدة إلى قوة عربية سنية على الأرض لتحقيق الانتصار. وبتلك الطريقة، على أدنى تقدير، فإن دماء بعض ضحايا الهجمات الإرهابية لن تكون قد ذهبت سدى.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»