سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

رحّالة الصيف: غيرا سيموفكا

ما كنت أدري، يوم ساقني قدري إلى تلك المزرعة الأوكرانية الوادعة حيث يقطن رفيقي أليوشا، أنني أُساق إلى أكبر تجربة من تجارب حياتي في روسيا. وأي الناس يدري ساعة يخطو، خطوة يخطوها واحد إلى عرسه فتقوده إلى رمسه.. وأخرى تنتهي بصاحبها إلى العرش وكان يحسبها خطوة إلى المشنقة.
استقبلتني «غيرا سيموفكا» – أو بالأحرى البيت الكبير فيها – بمنتهى اللطف والبشاشة. وهو بيت بدا لي قصرًا منيفًا بالنسبة للأكواخ الحقيرة المجاورة له؛ فطرازه حديث، وسقفه من حديد، ومن خلفه بستان فسيح من شجر الفاكهة وبعض أشجار الحور السامقة، والكلّ مصون بجدار عالٍ يحجب النظر ويصدّ المتطفلين والعابثين.. إنه بيت شقيقة أليوشا واسمها «فاريا» وزوجها «كوتْيا».
وكان وقت الغداء، فاجتمعنا حول المائدة وأنا أحسّني محور اهتمام ربّة البيت وربّه، فعيونهما كانت تتفحّص ملامحي وترافق كلّ حركة من حركاتي. لقد سمعا أشياء عنّي من أليوشا. ولكنهما يريدان أن يعرفا المزيد عن هذا الشاب الغريب من لبنان، أو من البلاد المقدّسة. وكنت بدوري أتفحّص ملامحهما وأرقب حركاتهما لعلني أعرف عنهما فوق ما عرفته من أليوشا. وكان أول ما تبادر إلى ذهني أنّ هذا الرجل لا يمكن أن يكون زوج تلك المرأة، فالبون شاسع جدًا بين الاثنين.
إنها – وأعني فاريا – لا تزال في ميعة الشباب.. في عينيها الزرقاوين، الواسعتين، دعج خفيف، وفي بشرتها الناعمة نضارة الشباب، وفي شعرها الكستنائي لمعان الفتوّة.. وهي تبدو إلى الخامسة والعشرين أقرب منها إلى الثلاثين. ولو أنّ فمها كان أصغر قليلاً مما هو، ولو أنّ أسنانها لم يشوّهها بعض السواد، لكانت تُعتبر من الجميلات. وما من شكّ في أنها ذكيّة الفؤاد، جيّاشة العاطفة؛ ففي نظراتها، وفي عباراتها وصوتها وحركاتها، ما ينمّ عن ذلك.
أمّا هو – كوتْيا – فصورة غريبة من صور الرجال؛ إنه طويل، هزيل، وقد جاوز الثلاثين.. يتدلى شعره على جبينه الضيّق ولا ينفك يرده بيده إلى فوق، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى الجبين. جفنه مكسور أبدًا، وعيناه الخضراوان باهتتان كأن من خلفهما فراغًا بغير نهاية. خدّاه الهابطان تعلوهما، ولا تكسوهما، لحية شقراء ضيّقة الجانبين، قليلة الشعر. وهذه اللحية قد فقدت توازنها على الذقن فبدا الطرف الأيسر منها أطول من الأيمن.. فمه واسع، وشفتاه غليظتان، وإذا تكلم وتمادى في الكلام ظهرت رغوة على طرفي فمه. لكنه قليل الكلام. والكلمة تخرج من فمه متردّدة، متعثّرة، فكأنه الطفل. والواقع أن في كلماته وحركاته ونظراته، من الوجل والحياء، والتردّد، ما يجعله أشبه بالولد لم تكتمل مداركه منه بالرجل الكامل الرجولة. وجلي أنه يتهيّب زوجته كثيرًا، فيعيش في خوف دائم من تأنيبها على كلمة أو إشارة تبدر منه في غير محلها، وعلى الأخصّ في حضرة الغرباء. فقد كان كلما وجّه إلي سؤالاً، التفت إليها ليطمئنّ إلى أنّه لم يرتكب هفوة. وأسئلته كانت في منتهى السذاجة. وقد تبيّن أنه رجل متديّن إلى أقصى حدّ، ولكن على طريقة البسطاء الذين لا يعنيهم من الدين إلا طقوسه ومراسمه.
إلى اللقاء..