أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

تحديات الشيعة في الخليج

شيعة الخليج في أزمة حقيقية، انكشفت بوضوح بعد تفجير مسجد الإمام الصادق في الكويت، والذي تلا تفجير مسجدين في السعودية على يد تنظيم داعش الإرهابي. سمعنا أصواتا شيعية نخبوية تندد بلغة حادة بالجرم وتنسبه للسنة ومذاهبها، وهذا يذكرنا بفترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين، حينما هبت رموز سياسية شيعية للاستغاثة بإيران المتأهبة، لتمكينهم من مفاصل الدولة، بعد أن حرمهم صدام حسين من ممارسة حقوقهم الدينية والاجتماعية طوال فترة حكمه، مستندين إلى الدعم الأميركي الذي انحاز لمظلوميتهم ووجد فيهم عونا على ترسية الاحتلال. موقف مضلل، فصدام حسين عقيدته بعثية وإن ارتدى جلباب السنة، مثلما بشار الأسد بعثي بطربوش علوي، كما أن الشيعة ليسوا وحدهم من قُمع على يد نظام صدام، فالأكراد (السنة) كانوا أسوأ حالا، فقد تعرضوا للإبادة وشردوا وعذبوا، أما العرب السنة الذين كان يدعي صدام أنه منهم لإرضاء الخليجين فقد كانوا تحت مظلة حاكم ديكتاتوري، وأجبروا على الانضمام لـ«البعث» حماية لهم ولأهلهم. كل العراقيين كانوا تحت وطأة الديكتاتورية لا حول لهم ولا قوة، لم تكن هناك طائفة أو فريق مقرب لصدام سوى من استخدمهم لاستدامة حكمه.
«داعش» لا يمثل السنة، مثلما كان صدام لا يمثلهم، لذلك حورب التنظيم المتطرف ولا يزال، من قبل حكومات الخليج، وتبرأت منه النخب المثقفة وشرائح اجتماعية واسعة مما جعله في حكم المنبوذ، وكل طروحاته الدينية تؤخذ في حكم الشاذ الخارج عن أقوال العلماء الربانيين. هذا موقف صريح وواضح. لكن بعض شيعة الخليج، وتحديدا النخب المثقفة، ليس لهم موقف واضح ضد ميليشيا حزب الله أو «الحشد الشعبي»، التي تمارس إرهابا لا يقل عن «داعش». مثل هذا الغموض لا يتيح تعايشا حقيقيا بل يظهر الاختلاف حول المبدأ، وبالتالي يجعل من كل شعارات التعايش حبرا على ورق. في اعتقادي أن التحدي الكبير لمواجهة خطر التشرذم والفرقة هو في تبني موقف مشترك واضح وصادق. لا يمكن قبول التنظير حول وحدة الأوطان إن كانت وحدة الموقف غائبة، المبدأ أن يكون الرفض جماعيا لكل ممارسات العمل المسلح المتطرف، وكل أجندة سياسية داعمة له أيا كانت مرجعيتها.
ما يزيد الأمر سوءا أن القيادات الدينية الشيعية المعتدلة مهجورة، لا أحد يميل للاستماع إليها في أجواء مشحونة بالتعصب والدفاع المستميت عن الهوية المذهبية، هذا رغم علمها الديني الغزير ومكانتها الاجتماعية المرموقة. ففي سباقات التسلح والمكاسب العسكرية لا يريد الناس فتوى حول السلام، ولا توجيها دينيا عن التسامح، بل ويحسبون أن لغة الاعتدال خيانة وخذلان وتحطيم للإرادة. العلامة محمد حسن الأمين صوت شيعي معتدل، له موقف ضد ممارسات ميليشيا حزب الله منذ عقود. الأمين آثر لبنان الوطن على حزبية المذهب، وغلب مصلحته فوق كل اعتبار، وهو مرجع ديني وجيه، يتفوق على منظري حزب الله وقياداته الذين كانوا تلامذته، ومثله علي محمد الأمين، وقبلهم المرحوم محمد حسين فضل الله، لكنهم اليوم في نظر بعض شيعة لبنان والعراق والخليج أصوات مهادنة لا تقدر خطورة المرحلة! وفي هذا هراء يراد به إبقاء المنطقة مشتعلة بالحروب المذهبية.
وبكل أسف، فكما ينعكس ما يحصل في سوريا على لبنان، فإن وضع العراق ينعكس بشكل مباشر على شيعة الخليج، كون العراق مركز قوة للمذهب لاعتبارات تاريخية، فهو يستقبل ملايين من شيعة العالم الإسلامي في مزاراته الدينية في النجف وكربلاء، وفيه أهم مرجع شيعي وهو آية الله علي السيستاني الذي يؤخذ كلامه ولا يرد، إضافة إلى أن الحكومة التي تدير البلاد منذ 2003 هي حكومة شيعية تدين بالولاء الديني والسياسي لإيران التي عبرت الهلال الخصيب على ظهر الشيعة العرب، واتخذت من عاصمة الخلافة العباسية عاصمة للإمبراطورية الفارسية. ومع كل انتخابات برلمانية عراقية نجد أن الرموز السياسية الأكثر قربا من إيران هي صاحبة الحظوة في السلطة، مما حدا بالكثير من الساسة إلى التقارب مع طهران بكل الوسائل؛ عسكريا وأمنيا، لبلوغ رضاها ونيل المطلب، فحُيّدت صفوة الساسة من الشيعة وأكثرهم وطنية وانتماء. هذا جعل العراق، المريض بالطائفية وعدم الاستقرار، مؤثرا سلبيا على المنطقة.
الحكومة العراقية بمنهجيتها القائمة منذ سقوط نظام صدام حسين تنحو تجاه الطائفية. قوضت قدرات جيشها الذي يفترض أنه متنوع المكونات، واتجهت للاستعانة بأكثر من 40 ميليشيا شيعية بإسناد إيراني بذريعة محاربة «داعش»، وتركت العشائر السنية لمصيرهم، مخيرين بين أمرين؛ إما سواطير «داعش» أو إذلال وقمع من قبل الحشد الشعبي، متناسية أن صحوات الأنبار هي التي كسرت شوكة «القاعدة» في 2006 حينما دُعمت بالسلاح، لكن الحكومة الطائفية محدودة الأفق، لا تمتلك رؤية وطنية شاملة، والأكيد أنها لا تملك قرارها. وفوق البيعة، تريد من الخليجيين أن يشعروا بالامتنان لهذه الميليشيات التي أوقفت زحف «داعش» تجاه دول الخليج.
كنا نتمنى لو أن الجيش العراقي، الذي كان أكبر الجيوش العربية، هو من يحارب «داعش»، وكانت دول الخليج ستصبح من أوائل الداعمين، مثلما دعمت الجيوش العربية خلال 60 عاما. أما زحف الدواعش فهو لم يتوقف منذ استيلائهم على الموصل قبل أكثر من عام بعد فرار الجيش العراقي، ولا يزال حتى اليوم يتهدد المناطق العراقية، ويبتلعها الواحدة بعد الأخرى، ولولا التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لكان الواقع العراقي أسوأ بكثير مما نراه اليوم، وعلى الحكومة العراقية التي اعتمدت قوات الحشد الشعبي الطائفية كميليشيا نظامية أن تقلق على العراق لا على دول الخليج، لأنها أسست لدولة طائفية لا يمكنها أن تعرف الاستقرار والسلم الاجتماعي لعقود قادمة.
لن يتحقق التعايش بين مواطني دول الخليج بمذاهبهم المختلفة إلا إذا توافقت رؤاهم حول رفض الممارسات المذهبية وعلى رأسها العمل المسلح، ولا يهم الاختلاف حول أحداث سبقتنا بخمسة عشر قرنا، إنما يعنينا الاختلاف حول الحاضر، فلا يمكن أن نصدق أن من يؤيد عمل حزب الله أو الحشد الشعبي أو جبهة النصرة أو «داعش»، يمكن أن يكون شريكا صالحا في وطن يحارب الإرهاب والتطرف، مهما كثر حديثه حول التسامح والتعايش وفضائل المواطنة.