يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

الإرهاب واقعًا: لنطارد الفكرة قبل معتنقيها

في كل مرة هناك متفاجئون ساخطون على مدى وحشية وغرائبية الإرهاب، لا سيما في نسخته الداعشية، وكأن خطاب الكراهية والتحريض والطائفية، وتأجيل فتح الملفات العالقة فيما يخص الديني؛ اعتدالاً وتشددًا، وصولاً إلى اعتناق فكرة مسيطرة (تبدأ بالتكفير ولا تنتهي إلا بالانتحار أو الاعتقال)، له علاقة بالفرد والمجتمع والدولة.
الاندهاش المزيّف حيلة نفسية كما هي حال ترحيل المشكلة إلى أسباب جزئية لا تعبر عن الصورة كاملة، فكون أن ثمة أهدافا وروابط مشتركة بين تنظيم داعش ونظام طهران أو حتى ما تبقى من أذرع البعث التي ذابت في نسيج التنظيم العسكري، لا يعني وجود كتلة كبيرة جدًا من كوادر التنظيم ضحية «الفكرة المسيطرة» التي ولدت مع الإسلام السياسي بشقيه الراديكالي الأصولي أو المسلّح منذ انفصاله عن الجسد الديني المؤسسي والمجتمعي، وأي محاولة للقفز على هذه الحقيقة تعني الدوران في فلك الاندهاش المتواصل من قدرة وتطور بنية ومنتجات وأهداف ونتائج سرطان «الإرهاب».
ما يحدث الآن ليس نقلة نوعية من «داعش»، وإنما هو تحول في العقل الإرهابي كما قلت مرارًا؛ تحول من توسل الشهادة وكل المفردات الشرعية التي خطفها خطاب الإرهاب، إلى بوابة السياسة بعدما أثبت الربيع العربي هشاشة الدولة العربية، وكلنا رأى حجم الانهيار في العراق وسوريا واليمن، الذي حدا ببعض المحللين إلى اعتباره جزءا من مخطط مرسوم سلفًا لتسليم الأرض لـ«داعش»، وهو جزء من أخطاء «المندهشين» المتكررة في قراءة واقعة الإرهاب.
أين الخلل في القراءة؟
ببساطة، السياسيون لم يدركوا ما فعله الربيع العربي ببنية الدولة العربية، وما فعله قبل ذلك غزو العراق من تفتيت مكونات المؤسسة العسكرية، وفي الوقت ذاته هم ينظرون إلى توافق أهداف الإرهاب الجديد الداعشي مع مخطط إيران التوسعي مع حرص الأسد على البقاء رأس حربة ضد الإرهابيين كما يتم له التسويق خوفًا من اكتساح التنظيم لكامل التراب السوري، وهي حجج تنطلي على الغربيين الذين يرون دموية الأسد وديكتاتوريته أقل رعبًا من آلة الذبح الداعشية المبنية على الفوضى واستثمار الأزمات ليس فقط بين المكونات السياسية كما لاحظنا حربها الأهلية ضد «القاعدة» و«النصرة» وكل الفصائل، بل استغلال التوترات الإقليمية لإحداث فجوة أوسع تتيح لهم إبعاد الأضواء عنهم وبالتالي: المزيد من التجنيد، والتمويل، وبناء الكوادر.
بيان وزارة الداخلية السعودية أشار إلى نقطة مهمة جدًا نغفل عنها في الحديث عن «داعش»، وهي أن والد الانتحاري موقوف على ذمة قضايا إرهاب، وهو ما يطرح السؤال: ماذا عن 12 مليون أسرة تعيش تحت كنف «داعش»؛ تنهل من خطابات دعاته، وتدرس مناهجه التكفيرية المنشورة، بل وتندمج شيئًا فشيئًا مع الحياة الداعشية التي خلقت مجتمعًا غريبًا ومضطربًا، فهو يعيش حياة مستقرة ما دام يدين لأفكار «داعش»، لكنه مستلب على مستوى الخطاب الفكري والثقافي بمفردات «داعش» المتشددة، وما يقال عن خطف الأطفال وتجنيدهم لا يمت للواقع بصلة، بل هناك اختطاف للمجتمع بأكمله، وقناعات بدأت تنشأ لدى فئات من البسطاء بتفضيل وحشية التنظيم على دموية النظام، ومن يرَ الأفلام الوثائقية المستقلة عن الداخل الداعشي، يدرك حجم وهول ما سيشهده العالم في ظل تفريخ عائلات وأجيال بأكملها كلما طال أمد «الحسم».
الإرهاب آيديولوجيا متطرفة مستقلة لا علاقة لها بواقع المجتمعات الإسلامية ولا بالأنظمة ولا حتى بالسياق الإقليمي الذي يشجع على نمو الإرهاب بسبب غياب الأدوار غير الأمنية.
التطرف فكرة مسيطرة ينتجها الواقع المأزوم بدءًا من عدم الاستقرار وإشكالات السياسة والمواءمة بين ضغط الحياة وإيقاع العصر والخطاب السائد، ثم خلايا مأزومة نائمة مستعدة لتنفيذ ما تستلزمه الفكرة المسيطرة الأحادية، والتي لا ترى في العالم سوى ذاتها وتحاول أن تفسر الآخرين على رؤيتها الخاصة تلك، ومن هنا يمكن إيجاد نقاط التقاء وتقاطعات في الأدوات وآليات التفكير والتنفيذ بين كل العمليات الإرهابية.
ولكل مندهش الرجوع إلى سيرة الخوارج في التاريخ ليدرك أن هذا التيار الإقصائي التكفيري (الخوارج ومجموعات البغاة) كانوا يتوسلون مقولات دينية بغية الوصول للسلطة، لكنهم ينتمون إلى الإطار المفاهيمي نفسه لتداول النص الديني، وبالتالي فمبررات الخوارج، رغم وحشية تجربتهم، كانت تنطلق من داخل النص بتأويل خاص يخالف جمهور المسلمين.
إرهاب اليوم هو نص جديد مقطوع الصلة على مستوى الاستدلال عن تاريخ المدارس الدينية، لذلك نجد أن كل رموز الإرهاب بلا استثناء لا ينتمون للتيارات الدينية أو المدارس التقليدية الرسمية، فهم نفذوا من خلال هيمنة وثورة الفضاء الديني فيما بعد حكومات الاستعمار، فحدث تلاقح كبير بين «الإسلام السياسي» الذي تأثر بتكنيك الأحزاب الماركسية، لكنه صنع بصمته الخاصة من خلال النفاذ لقلب المجتمع عبر تيارات أهل الحديث، ولم تخترها عبثا؛ بل لأن الفضاءات الدينية هي الأكثر قبولا للتغيير والتطور والإضافة والاقتباس مع سهولة وسذاجة الفكرة والتعبير عنها، مما يساهم في نشرها لدى فئات لم تتلق حظها من التعليم الديني (غالب أفراد الإرهاب في العالم محصلتهم الدينية ضئيلة جدًا) بل لديها تضخم فيما يخص مسائل القتال ودور الحرب والكفر وتبرير القتل والذبح.. إلخ، وهي مسائل كانت تحظى بخصوصية شديدة في مدونة الفقه الإسلامي لاعتبارات تتصل بتاريخية تلك الأحكام وارتباطها بالواقع أكثر منها بالقيم العامة للإسلام والأديان.
التطابق العجيب في ملامح العقل الإرهابي يقودنا إلى ضرورة قراءة الظاهرة في جذرها الفكري والآيديولوجي وليس الاقتصادي والاجتماعي فحسب؛ فكثير من الإرهابيين لا يعاني من أي مشكلات في هذا الاتجاه، بل إن قراءة خطابه أو وصيته قبل العملية توضح مدى حالة الاستقرار النفسي التي تملأ قلبه، مما يحيلنا إلى أهمية قراءة العنف من زاوية الدافع أو ما يسمى «الفكرة المسيطرة»، بحيث تنتهي قيمة الوجود لديه، لأنه يأمل في حياة أخرى وفق رؤيته الضيقة التي لم تعد تتسع لها الحياة الحقيقية في الواقع.. قراءة فاحصة لاحتفالية بالموت كهذه هي جزء من إعادة الاعتبار لقيمة النفس البشرية ولقيمة الحياة.
أن يقوم شخص مهووس بالخلاص وبتركيع العالم الآثم بسلاحه.. أن يقوم بتفجير جسده في الركعة الثانية من الصلاة، هذا أبعد من أن يكون مجرد «مغرر به»، أو منفذًا لأجندة استخباراتية. لنحارب الفكرة أولاً، وحينها لن يكون لها معتنقون.

[email protected]