عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

«تفجير القديح» والصراع مع إيران

الصراع المفتوح الذي يدور في الشرق الأوسط هو الصراع بين الجمهورية الإسلامية في إيران وبين الدول العربية وفي مقدمتها دول الخليج وبالأخص المملكة العربية السعودية، وتعتمد إيران في حربها على السعودية والدول العربية على أوهام الإمبراطورية الفارسية، وعلى الطائفية كسلاحٍ سياسي وعنفي، وعلى الحركات الأصولية والإرهابية السنية إما دعمًا أو خلقًا.
يقود لهذا الحديث الحادث المؤلم الذي جرى يوم الجمعة الماضي في «بلدة القديح» التابعة لمحافظة القطيف في المنطقة الشرقية من السعودية، حيث فجّر انتحاري تابعٌ لتنظيم داعش نفسه أثناء أداء صلاة الجمعة فقتل 21 مواطنًا سعوديًا وجرح قرابة المائة مواطنٍ في عملية طائفيةٍ بشعةٍ، لا تستهدف الطائفة الشيعية فحسب، بل تستهدف بالمقام الأول أمن السعودية واستقرارها.
تاريخ إيران طويلٌ في استهداف السعودية، فهي قامت في 1987 بفتنةٍ في موسم الحج وقتلت الحجاج من كل الجنسيات المسلمة وروعتهم في الشهر الحرام في البلد الحرام، وأعادت الكرة عن طريق بعض المواطنين الكويتيين وبعض السعوديين في تفجيرات المعيصم 1989 في مشعر منى، واستهدفت دول الخليج بمحاولة اغتيال الشيخ جابر الأحمد في الكويت وكذلك اختطاف الطائرة الكويتية، ولم تألُ جهدًا في نشر خلايا التجسس في دول الخليج والتخطيط لزعزعة أمن دوله وشعوبه، واحتلال بعض أراضيه.
ولكن ماذا تستفيد إيران من قتل الشيعة؟ في العراق ودول الخليج والسعودية تحديدًا؟ إنه الصراع السياسي الكبير في الشرق الأوسط وطموحات التوسع وبسط النفوذ الإيرانية، فالغرض من مثل هذه الأحداث ليس استهداف الشيعة الذين تزعم الدفاع عنهم أو احتكار الحديث باسمهم وإن لم يرضوا، بل هو زعزعة الاستقرار السياسي الذي تتمتع به السعودية ودول الخليج.
تعمل إيران ذلك بطريقتين؛ الأولى: دعم بعض شذّاذ الشيعة للقيام بعمليات تخريبية مثل تفجيرات الخبر 1996 - ودون تقصٍ - مثل أحداث العوّامية المتكررة وغيرها والتي كان ينفخ في كيرها أشخاص مثل الإرهابي نمر النمر، والثانية، بدعم حركات الإرهاب السنية كتنظيم القاعدة لخلق الفتنة الطائفية كما جرى في العراق سابقًا وكما يجري اليوم مع تنظيم داعش، وكما دعمت لسنواتٍ طوالٍ تنظيم القاعدة في حربه على السعودية.
تفجيرات الدالوة (نوفمبر/ تشرين الثاني 2014)، وخلية الخمسة والستين التي أعلنت عنها السعودية لاحقًا، ومحاولة تهريب متفجراتٍ من البحرين للسعودية، وتفجيرات القديح قبل يومين، كلها تؤكد على استمرار النهج الإيراني الإجرامي المتحالف مع الإرهاب السني لضرب السعودية وإنجاح الأهداف الكبرى لإيران في المنطقة.
قامت الثورة الإيرانية بالأساس على خلق تنظيماتٍ سريةٍ لإسقاط الدول والأنظمة السياسية ونجحت في إيران وقضى الخميني على كل من ساعدوه ممن ليسوا من أتباعه من رموزٍ وتياراتٍ وأحزاب، ودخل في حربٍ طويلةٍ مع العراق، وهو ما صنعته بعد حرب 2003 في العراق، حيث دخلت بكل قوتها للعراق وعملت على خلق أو دعم التنظيمات السرية العنفية شيعيًا وسنيًا، وهي نقلت التجربة للبنان مبكرًا عبر إنشاء حزب الله ودعم حركة أمل، ولاحقًا بعض الأحزاب السياسية الأخرى كتيار عون، والأمر ذاته يجري في اليمن حيث تدعم حركة الحوثي وأتباع علي عبد الله صالح.
لقد عاد خامنئي للأسلوب الأول فركّز على التنظيمات السرية والمسلحة وترك الحروب المنظمة، وحين قامت عاصفة الحزم أسقط في يده وخانته كل خبرته العريقة في التخريب.
السعودية دولةٌ كبرى في المنطقة سياسيًا وجغرافيًا وديموغرافيًا، وفيها تنوعٌ مذهبي وثقافي واجتماعي يتناسب من حجمها، ولديها أقلياتٌ كذلك، منها الشيعة الجعفرية الاثنا عشرية في المنطقة الشرقية و«النخاولة» في المدينة و«الإسماعيلية» في نجران، ولكنها لم تلغ يومًا مواطنتهم أو تتعدى على حقوقهم أو تقصر في حمايتهم، وهو تحديدًا عكس ما صنعته إيران الخميني من اضطهاد كل الأقليات المذهبية والعرقية، وإيران هي الدولة التي ينص دستورها على أنها دولةٌ طائفيةٌ بامتياز.
أوهام استعادة الإمبراطورية الفارسية يعرفها كل متابعٍ لثورة الخميني، والشواهد عليها أكثر من أن تعد، ومن آخرها تصريحات علي يونسي مستشار روحاني التي قال فيها: «إيران أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد»، وصرّح نائب رئيس الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي بـ«أن هناك جيوشا شعبية مرتبطة بالثورة الإيرانية في العراق وسوريا واليمن»، بالإضافة لنموذج حزب الله اللبناني بالتأكيد وبقية الميليشيات الموالية لها.
أما علاقة إيران تحالفًا ودعمًا مع الأصولية والإرهاب السني، فهي على علاقةٍ قديمةٍ منذ عقودٍ بدأت من جمال الدين الأفغاني الذي أنتج تلاميذ يخلطون الدين بالسياسة بالعنف على المستوى السني والشيعي على حدٍ سواء، وتطورت سنيًا في جماعة الإخوان المسلمين، وشيعيًا في خط الإسلام السياسي الذي كان يقوده الكاشاني وصولاً للخميني، ومن ثم العلاقات الساخنة المستمرة إلى اليوم بين الطرفين من خلال «التشيع السياسي» الذي قادته ودعمته إيران ولم تزل.
هل هناك علاقة بين تفجير القديح والخطابات الدينية المتطرفة سنيًا؟ نعم بالتأكيد، ولكن حصر القصة في هذا البعد فحسب، هو حصرٌ قاصرٌ يدفع إليه الجهل أو غرض مقصودٌ يهدف إلى القدح في «الدولة السعودية» عبر وجود خطابات دينية متطرفةٍ فيها، وهي كغيرها تاريخيًا وواقعيًا، لديها خطاباتٌ متطرفةٌ، ولكن حين تسعى السعودية للجم تلك الخطابات تسعى إيران لنشرها وتمجيدها ودعمها.
المنطقة اليوم تعيش حربين بالتوازي؛ حربٌ ساخنةٌ طرفاها التحالف العربي في عاصفة الحزم وعملاء إيران في اليمن، وحرب باردةٌ مع إيران في دول المشرق العربي في العراق وسوريا ولبنان والحركات التابعة لإيران في فلسطين ومصر.
وللمقارنة فإنه في حين تنخرط السعودية ودول الخليج والدول العربية في حربٍ ضد الإرهاب والأصولية وجماعتهما، فإن إيران تعمق التعاون معهما وتقدم الدعم لهما، وهنا يثور سؤال مهم وهو لماذا لم تستهدف أيًا من جماعات الإرهاب السنية المتعددة من تنظيم القاعدة إلى تنظيم داعش أي عمليةٍ إرهابيةٍ ضد إيران في الوقت الذي تصل شرورهما لكل دول العالم؟ الجواب يكمن في أنهم شركاء متوافقون.
أخيرًا، فإن «عاصفة الحزم» والمعركة في اليمن هي حربٌ طويلةٌ وممتدة يراد منها إعادة التوازن في المنطقة، وتغيير خريطة المشهد فيها برمته، ولكن هذا كما يحتاج حزمًا وعزمًا يحتاج وعيًا ورؤيةً مع صبرٍ وأناةٍ.

[email protected]