د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

الإرهاب والحريات أو علاقة القط والفأر

إن الإرهاب ليس فقط ظاهرة مُعقدة ومكروهة، لما تعنيه من ظلامية ودموية، بل إنه أيضًا مشكلة خطيرة تجلب وابلاً من المشاكل والإشكاليات المحرجة والشائكة بالنسبة إلى كل المجتمعات، التي قد تصاب بداء الإرهاب. من ذلك أن تأثير الإرهاب، إذا ما لطخ سلام مجتمع ما وأمنه، يطال في المقام الأول مجال الحريات ويستهدفها.
يفرض خوض معركة ضد الإرهابيين على الدولة - حتى ولو كانت عريقة في الممارسة الديمقراطية - الانخراط في سياسة التضييق على الحريات من أجل حصر الإرهابيين وملاحقتهم.
ولعل الدّرس الأول الذي تلقته كل نخب العالم بعد تاريخ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001. يتمثل في أن الحرية المتجسدة في علاقة المواطنين بالدولة من خلال الحريات الأساسية والعامة، إنما تقدم - أي الحرية - بوصفها كبش فداء المعركة ضد الإرهاب. وهنا نشير إلى تلك الإجراءات التي اعتبرها منتقدو الولايات المتحدة ضربة للحريات ومساسًا بالديمقراطية الأميركية ونذكر على سبيل المثال لا غير إجراء التنصت على الهواتف ومراقبة الحسابات البنكية وغير ذلك من التدابير الأمنية الاستثنائية، التي اعتمدتها الولايات المتحدة لتضييق الخناق على مشجعي الإرهاب والمتورطين فيه سواء بالمشاركة الفعلية أو بالتمويل أو بالقتل..
وكلما كان المنجز في مجال الحريات مهمًا، تمت ملاحظة انعكاسات الحرب على الإرهاب وتداعياتها، حيث تقوم الدولة المحاربة الأولى للإرهاب بفرض قوانين متناقضة مع الدستور ومع فلسفة القوانين الداعمة لحقوق الأفراد وحرياتهم وذلك باسم الدفاع عن الأمن القومي الذي يعتبر أعلى من الحريات القائمة، باعتبار أنه لا معنى لحزمة الحقوق والحريات من دون أمن.
ويكون تهديد الإرهاب للحريات موجعًا أكثر في بلدان حديثة العهد بالديمقراطية ومفتونة بحصولها على حرية الإعلام وحرية التعبير بشكل عام أي تمامًا مثل قدرة الطفل الضعيفة على تحمل الألم.
وفي هذا الإطار نضرب مثالاً آنيًا وحيًا يتصل بتونس التي عرفت كما نعلم أولى الثورات العربية في بداية سنة 2011، والتي تعتز نخبها الحداثية بالدستور الجديد وما يتضمنه من بنود حاملة لروح الثورة واستحقاقاتها وداعمة للحريات جميعها وضامنة لها.
لذلك، فإن مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات المسلحة الذي وردت فيه مجموعة من التضييقات الواضحة على الإعلاميين التونسيين، قد أنتج جدلاً حادًا وساخنًا في أوساط النخب التونسيّة التي طالبت بسحبه، منتقدة إقدام الحكومة على تمرير مثل هذا المشروع والحال أنه من بين وزراء هذه الحكومة من لهم تاريخ مشرق في مجال الدفاع عن الحريات.
ولمّا كانت حرية الإعلام حديثة العهد في تونس والإعلاميون في منتهى الحماسة لعدم التفريط في هذه الحرية المكتسبة، فإن المواقف كانت عالية السقف وحادة النبرة في خصوص رفض مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات الأمنية، معتبرة - النخب الرافضة من إعلاميين ومحامين وحقوقيين - أنه مقدمة خطيرة لعودة دولة البوليس والديكتاتورية وتوسيع صلاحيات قوات الأمن.
إن الغرض من إيراد هذا المثال المتعلق بتونس، هو مزيد من البرهنة على فكرة أن الإرهاب هو العدو الأكبر والأول والأكثر خطورة ووحشية للحريات في أي مجتمع من المجتمعات. ويمكن للدولة باعتبارها المؤسسة الأعلى في البلاد أن تعيد هندسة مدى هذه الحرية ويصبح لها حق الاستئثار بالحرية. فالإرهاب يُجبر الدولة على تجميد مكاسب الحريات وحتى توقيف مشاريعها الإصلاحية في مجال دعم الحريات العامة وحقوق الإنسان.
وفي مقابل ذلك نلحظ أن الإرهاب والتطرف، يتغذيان من الواقع الحرياتي لأي مجتمع حيث يستثمران مناخ الحريات للنشاط والنمو مع الاستفادة رغم ظلامية مشروعهما وأفكارهما من تكنولوجيا الاتصال الحديثة وتوظيف شبكات التواصل الاجتماعي لتجنيد الشباب وغير ذلك. أي إن الإرهاب يسجل أهدافًا في شباك الحريات في كل الحالات، خلافًا للحريات التي تُطبق عليها آليًا تضييقات، تُعد من شروط الحرب على الإرهاب وتدابير لا مفر منها للانطلاق في هذه الحرب والتحكم فيها.
وفي الحقيقة، فإن المطلوب في ظل الأوضاع الرّاهنة في العالم العربي والإسلامي تحديدًا توخي أقصى ما يمكن من اليقظة في خصوص مسألة الإرهاب وتأثيراته الوخيمة على مجال الحريات. ويبدو لنا أن لهذه الإشكالية حساسية أكبر في بلداننا أكثر من الدول الديمقراطية، وذلك لأن هذه الدول محصنة تاريخيًا ضد النكوص في الحرية والديمقراطية خلافًا للثقافة عربية، التي عاشت في مختلف مراحلها التاريخية صراعًا عنيفًا ودمويًا ضد الحرية.
من هذا المنطلق، وفي ظل تراكم مخاوف تاريخية، فإنه يصبح من المفيد بذل جهد مخصوص في كيفية تنظيم العلاقة بين ظاهرة الإرهاب والحريات وتجنيب هذه العلاقة أنموذج علاقة القط بالفأر. ولعل الاكتفاء بأخذ إجراءات ظرفية، يتمّ إبطالها بمجرد القبض على آخر إرهابي، قد يشكل سياسة واعية بأهمية حفظ الدستور والقوانين ممّا هو ظرفي وعابر خصوصًا عندما يتعارض مع بنود الدستور الوثيقة القانونية الأكثر علوية ومرجعية التي خضعت في صياغتها إلى فلسفة معادية لإرث الثقافة القانونية القائمة على الزجر.