رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

ظريف والرسالة للعرب من «الخليج الفارسي الأَوسع»!

عندما يتأمل الذين كانوا يراقبون على مدى عامٍ ونصف العام المفاوضات الإيرانية - الدولية بشأن النووي، المشهد والمآلات، لا يرون محمد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني إلاّ مبتسمًا، وأحيانًا ضاحكًا. وقد لاحظتُ هذه الخصلة فيه قبل عام ونصف العام في إحدى المقابلات التلفزيونية مع قرينه التركي آنذاك أحمد داود أوغلو. كان ظريف يبرر التدخل الحزب اللاهي في سوريا بإقدام التكفيريين على هدم مزارات أهل البيت! قال الرجل ذلك وهو يفتح فمه ضاحكًا، وأجابه التركي الذي يبتسم أحيانًا أيضًا: «لقد دمَّر بشار الأسد ألفًا وخمسمائة مسجد سني حتى الآن في كل أنحاء البلاد، وفي أغلب الحالات أثناء صلوات الجمعة لقتل أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس، ومع ذلك ما تدخلنا نحن ولا العرب السنة لمنع هذا الاضطهاد الديني، ما أعنيه أنّ هذا ليس مبررًا يا عزيزي»! وكانت إجابة ظريف كالعادة ضحكةً مجلجلةً!
وعلى أي حال، ليس القصد من هذه المقالة تفسير علل ابتسامات ظريف، بل السبب الرسالة التي نشرها الرجل في «نيويورك تايمز» بتاريخ 21/4/2015، بعنوان «رسالةٌ من إيران». ومع أنه بدأها بالنووي، وانفتاح إيران شعبًا وحكومةً على حلّ المشكل (المصطنَع كما قال) بعزم وتصميم، وبطرائق سلمية؛ فإنه سرعان ما ترك النووي جانبًا، وانصرف إلى معالجة مسألة أُخرى قال إنها شديدة الأهمية، وهي «أمن الخليج الفارسي الأوسع» (!)، وهو مصطلحٌ تفوق فيه على علي يونسي الذي كان يؤسس إمبراطورية (برية) عاصمتها بغداد. أما ظريف (بعد روحاني الذي سمعتُ له خطابًا قبل أيام عن أنّ إيران مسيطرة ما بين مضيق هرمز وبحر عُمان!) فهو يخترع مصطلحًا ما سبقه إليه أحد، إذ بحسب ظريف فإن سائر تلك البحار ومنها البحر الأحمر وبحر العرب وبحر عُمان والمحيط الهندي، كلها داخلة في «الخليج الفارسي الأَوسع»! وإيران متفضّلة بأن تعرض على جيرانها القابعين وسط بحار نفوذها وعلى شواطئها التفاوُض لضمان أمنهم في محيطاتها الشاسعة. وهذا بالطبع وبغضّ النظر عن أي شيء آخر فضلٌ منه، فقد كان يقول لكل من سأله عن العراق وسوريا في السنتين الماضيتين: «هاتان المسألتان ليستا من صلاحية وزارة الخارجية، بل هما بيد الإمام»!
لقد سمح الإمام إذن لروحاني وظريف بالتفاوض على أمن «الخليج الفارسي الكبير» (مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي كانت إيران تقول إنه أميركي، وإنها في صراعٍ معه!)، وهي تقدم نموذجًا على ذلك (من خلال كلام ظريف إذا أخذناه على محمل الجد!) أو ما يمكننا التفاوض عليه معها تفضلاً منها: المشكلة اليمنية! وبالطبع فإنّ التمهيد للدخول في التفاوض يكون بالاعتراف بأنّ اليمن جزءٌ من «الخليج الفارسي الأَوسع»! وقد قال السعوديون واليمنيون إنه لا كلمة لإيران في مستقبل اليمن. لكنْ لنتجاوز تمهيدات ظريف، ولنر ما هو المشروع الإيراني للحلّ في اليمن: الاعتراف بالحدود الدولية للبلدان، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد، ووقف إطلاق النار، والعودة للتفاوض على الحل السياسي!
إنّ أحدًا من العرب لا يشكّك في حدود اليمن أو أي بلدٍ آخر. أما الذي اخترق الحدود في اليمن والعراق وسوريا ولبنان والبحرين والكويت فهم الإيرانيون. ولستُ أدري معنى التدخل في شؤون البلاد الأُخرى، والذي لا تريده إيران، إن لم يكن ما تفعله في البلدان العربية اختراقًا للحدود وتدخلاً! أما «عاصفة الحزم» فهي تدخُّلٌ لحماية اليمن من الانقلاب والفوضى والتدخل الإيراني. وهي دولةٌ لديها سلطة منتخبة، وهي التي طالبت مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية والأمم المتحدة بالتدخل لحماية البلاد من الانقلاب والفوضى. وبعد قرار الجامعة العربية، جاء قرار مجلس الأمن داعمًا للتدخل، دونما اعتراضٍ روسي، والروس حلفاء لإيران الإسلامية! وقد سمعتُ المحلِّل اللبناني الموالي للحزب والأسد يقول: «نحن عاتبون على روسيا»، فخشيتُ على بوتين بالفعل!
لا كلمة لإيران في مستقبل اليمن. ولو كانت تريد حلاً بالفعل لما أمرت أنصارها باجتياح صنعاء وعدن. وبالطبع فإنّ الحلَّ في النهاية لن يكون غير سياسي، إنما بعد تحرير «عاصفة الحزم» لجنوب اليمن، ولتعز والمدن الساحلية، ودخول صنعاء وانحسار الميليشيات عنها. وتصوروا الإرادة الحوثية (والإيرانية) في الحلّ. هم لا يزالون يقاتلون في جنوب اليمن، وأرادوا الاندفاع باتجاه الحدود السعودية مرةً أُخرى، ثم هم يريدون الحلّ السياسي، والذي خرجوا عليه مع أنه أعطاهم ما لم يكونوا يحلمون به!
عندنا مثلٌ شعبي يقول: «يا فرعون مَنْ فرعنك؟ قال: ما وجدتُ أحدًا يردُّني». فحتى نصر الله والأسد وعبد الملك الحوثي تفرعنوا، وليس خامنئي وسليماني فقط!
ولنبدأ باستعراض مظاهر «الفرعنة»، ليس من الحركة على الأرض، فهي ظاهرة، بل لجهة ما سُمّى بالمشروعات الاستراتيجية! وأول مشروعٍ بالمنطقة لتجاوز المشروع العربي هو مشروع الشرق الأوسط بعد الهلال الخصيب. ثم صار الشرق الأوسط كبيرًا عندما غزت أميركا أفغانستان والعراق وربطتهما معًا. وانصرفت إيران لتشارك مع الأميركيين من أجل اصطناع مناطق نفوذ، غطاؤها أميركي وسياسي (نصرة فلسطين ولبنان)، وباطنها تكوين مجموعات شيعية مسلَّحة، بغرض إثارة الاضطراب في البداية أو الانفصال، أما بعد عام 2000 فبغرض الاستيلاء على البلدان، والتهديد بالحرب الأهلية إن لم يحصل ذلك، والآن التهديد بإمكان استيلاء الإرهاب على البلاد إن لم تساعدْنا إيران لمنع ذلك!
إنّ الحركة الإيرانية والتي بلغت ذروتها باليمن اتخذت في تطوراتها عبر العقد ونصف العقد منذ تبينت معالمها بعد الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق عدة عناوين، كلّها لصالح المنطقة، وضد أميركا وإسرائيل. أما الآن فيظهر الوجه الجديد للاستراتيجية الإيرانية، والذي تريد إقناع العامة الإيرانية به قبل النووي وبعده. ساعة يظهر الخراساني واليماني لمواجهة السفياني، والاستيلاء على الحرمين وتسليم المفاتيح على يد الخراساني (= خامنئي) للمهدي عند قبر النبي (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة! وساعة تقول للإيرانيين هذه هي إمبراطوريتكم عادت إليكم وعاصمتها بغداد فتمتعوا بها بدلا من النووي. وساعة تقول لذوي الثقافة الاستراتيجية ما قاله لهم روحاني وظريف: «الجيش الإيراني موجودٌ بين مضيق هرمز وباب المندب وبحار العرب والمحيط»، أو إنّ إيران مسيطرة على منطقة استراتيجية هائلة اسمها: «الخليج الفارسي الأوسع والكبير»!
إنّ الإجابة على هذا الهراء كلِّه، والذي كاد يضع نفسه في «الخواء الاستراتيجي العربي»، تبدو في «عاصفة الحزم» التي تعيد لنا ليس اليمن وحسب، بل الوجود العربي في لبنان وسوريا.. والعراق. وتسألونني بعد هذا كلِّه عن ابتسامة ظريف الغامضة مثل غموض ابتسامة الجيوكندا! لا حول ولا قوة إلاّ بالله.