رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

ضرورة خروج مصر من أجل الأمن والهيبة والمصالح!

قام سلاح الجو المصري بضرباتٍ ضد «داعش» في مدينة درنة الليبية. وقد جاء ذلك ردا على إعدام التنظيم الإرهابي لأقباطٍ مصريين من العاملين بليبيا. وقد انصرفت وسائل الإعلام العالمية (والعربية) إلى تشبيه رد فعل مصر على جريمة «داعش» النكراء ضد مواطنين مصريين، برد فعل الأردن عندما أحرق الإرهابيون الطيار الأردني الكساسبة. وهذا الشبه ظاهرٌ في الحدث وآثاره، لكنّ وضع البلدين مختلفٌ اختلافا ظاهرا. فالأردنيون سبق لهم في العقد الأخير أن شاركوا في عمليات خارج أرضهم. كما أنّ الأردنيين لا يستطيعون إلا أن يظلُّوا في مواقع الهجوم ضد «داعش» والتنظيمات المتطرفة، لأنّ تلك التنظيمات ومنذ عام 2002 استهدفت وتستهدف الأردن، وبين مواطنيه متعاطفون، ومقاتلون مع «داعش»، وفي الغالب هناك خلايا نائمة. وقد أتت فترة قبل عام 2010 كان فيها أمن الأردن مستهدفا من المتطرفين ومن النظام السوري، بحيث ما كان واضحا أحيانا من أين تأتي السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة!
ولنعد إلى الوضع المصري، في مواجهة التطرف والإرهاب. منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي، كان القذافي يتحرش بمصر إما على الحدود، أو من خلال اضطهاد العاملين المصريين وترحيلهم. وفي البداية ما استطاع المصريون احتمال ذلك، وقام الطيران المصري بضرباتٍ بالداخل الليبي على مقربة من الحدود. وقد حدث ذلك أيام الرئيس السادات؛ أمّا في زمن الرئيس مبارك؛ فإنّ النظام هناك، آثر دائما الدبلوماسية، والاتصالات السرية، وتوسيط الوسطاء سواء تجاه ليبيا أو السودان أو غزة أو إثيوبيا أو.. قطر! بيد أنّ أساليب «القوة الناعمة» هذه ما نفعت في شيء. لأنّ كلَّ الذين أقبلوا على التحرش بمصر أمنيا أو سياسيا، اعتبروا أنّ مصر تقبل الابتزاز، وتؤثِر التفاوض حتى في مسائل تدخل في باب التعرض للأمن القومي! فقد تصرف نظام الرئيس مبارك، كأنما يستبطن إحساسا عميقا بالذنب تارة بسبب اتفاقية السلام مع إسرائيل، أو بالاحتياج بسبب كثرة العاملين المصريين بالخارج وخاصة بدول الخليج وليبيا.
على أنّ هذين العاملين أو السببين لا يحيطان بوجوه أو أسباب الانكفاء المصري حتى في مجالات الدبلوماسية الفعالة. إذ ما ظهر ذلك مع السودان وإثيوبيا وفي مسائل أمنية واستراتيجية فقط؛ بل وظهر أيضا بعد عام 2007 عندما انفصلت حماس بغزة وراحت تضغط على الداخل المصري، ووصل الأمر إلى دخولها مع حزب الله لتهديد أمن قناة السويس بحجة مقاتلة إسرائيل من داخل مصر!
لقد تردّى الجدال حول دور مصر في ثمانينات القرن الماضي، إلى اتهاماتٍ سخيفة ومبادلة بشأن قائد الأمة وحامل لوائها، وهل هو مصر أم صدام حسين أم حافظ الأسد. أما صدام فقد استخدم «فائض قوته» في حروبٍ عبثية ضد إيران والكويت.. والولايات المتحدة! وأمّا حافظ الأسد فاكتفى من غنائم غياب مصر بالاستيلاء على لبنان، والتشارك فيه مع إيران، عوضا عن محاولة تحرير الجولان بالحرب أو بالتفاوض! في حين جادل انكفائيو المصريين بأن «القوميين العرب» الأشاوس، إنما يريدون مقاتلة إسرائيل حتى آخر مصري!
إنّ كلَّ هذه الجدالات التي ما كانت غير أساطير ومعاذير، انتهت لدى العرب وغيرهم بضربة «القاعدة» للولايات المتحدة وهجمة الولايات المتحدة على العراق، والدخول الإيراني فالتركي على أمن الدول والمجتمعات العربية، والحراكات الشعبية العربية، وتصاعد الأصوليات القاتلة من جديد في وجه الأميركيين، وفي وجه الإيرانيين، ثم في وجه الجميع!
صعد المتطرفون والإسلاميون المسيسون بمصر بعد حراك عام 2011، ليس بسبب التراخي الأمني، بل لأنّ مصر كانت محاصرة من غزة ومن السودان ومن البحر الأحمر ومن المتوسط، وكادت الحدود تنسدُّ تماما عندما انفجر السلاح بليبيا من الحدود التونسية وإلى حدود مصر. ما عاد منطق «عدم إيذاء» أحدٍ أو التعرض له كافيا لوقاية مصر من الشرور منذ غزو العراق عام 2003 وربما قبل ذلك. هذا يصح بحالة بلدانٍ صغيرة مثل لبنان والأردن وتونس، ومع ذلك تعالوا لننظر هل أفاد لبنان أو الأردن أو تونس من اتقاء الشر بكل سبيل؟ الحكومات الضعيفة هي التي تحاول اتقاء الشر، وتبحث عن مظلة بالإقليم أو في المجال الدولي، ثم يكون ضعفها هو داعية التدخل في شؤونها الداخلية أو حتى الاستيلاء على إدارة شأنها العام مثلما حصل ويحصل للبنان! أما مصر الدولة الكبرى، وذات الوظائف والأدوار، فلا تحتمل الانكفاء، ولا تحتمل الحكومات الضعيفة. وهذا ليس من أجل الدور، ولا من أجل حب الغزو والغنائم؛ بل لأنّ مصر هي مصر: الممتدة بين البحار وشاسع المساحات، والمنغمسة في صنع الدول والإمبراطوريات والحضارات والأديان منذ أربعة آلاف عام. لقد سيطرت على مصر منذ ثمانينات القرن الماضي، ومن خلال نخبها السياسية والثقافية، حالة من الإحساس بالتفرد والانفراد والحيرة والتكابُر. وأحسب أنه إذا كانت البلدان الصغيرة (مثل لبنان) تحاول «تكبير» نفسها، وإثبات ضرورات وجودها من خلال مهماتٍ ورسالاتٍ ووظائف، فإنّ الأُمم الكبيرة ذات التاريخ العريق والزاخر، إنما يضطرب داخلُها عندما تفتقد الانتماء الكبير والأدوار الكبيرة والمصالح الاستراتيجية. روبرت كابلان يُسمّي ذلك لعنة الجغرافيا أو التاريخ أو هما معا. لكنّ جمال حمدان فيلسوف شخصية مصر يسميها: عبقرية المكان!
إنّ كلّ ما ذكرناه سابقا من أضرارٍ بسبب تكأكؤ مصر أو انكفائها يمكن إجماله في أمرين اثنين: الجغرافيا والتاريخ يفرضان الحركة نحو الخارج أو يفترضانها. والأمر الثاني الهجمة الاستراتيجية على مصر ومحيطها من جانب الأميركيين (وحلفائهم الصهاينة)، والإيرانيين (الذين يستعمرون محيطها العربي) والأتراك (الذين يريدون الاستيلاء على إسلامها)، والإرهابيين وجماعات الإسلام السياسي (الذين صعدوا في خليطٍ من الاحتجاج على الغياب، والعمل عند الخارج الهاجم)! لا يملك الإيرانيون ولا الأميركيون ولا الإرهابيون ملفات فلسطين أو العروبة أو الإسلام، وكلما أرادوا امتلاك شيء من ذلك فسيصطدمون حكما وواقعا بمصر وسواء شاء المهاجمون أم أبوا!
عام 2007 سمعتُ مصريا يقول إنّ استيلاء حماس على غزة ستكون له آثارٌ فاجعة على مصر. وقد حصل ما توقّعه المفكر المصري، وبأكثر مما أعتقد. لأنّ ما أصاب مصر أصاب بقدرٍ أكبر وأفظع عدة أقطارٍ عربية!
لقد خرجت مصر أخيرا لأنّ مواطنين مصريين سقطوا ضحايا للإرهاب على أيدي إرهابيين. والمصريون والعرب الآخرون محتاجون لقوة مصر العسكرية والدينية والثقافية والسياسية والاستراتيجية. وذلك ليس لصون الانتماء فقط؛ بل ولصون الوجود والمجال الاستراتيجي والإنساني. فلتخرج مصر من أجل أمنها وأمننا، ومصالحها ومصالحنا، وهيبتها التي هي هيبتنا حيث تعزُّ الهيبة!