فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

أمثولات الملك عبد الله بن عبد العزيز في عام عاصف

على مدى نصف قرن من العمل الصحافي والكتابي والتأليفي تابعتُ خلال سنواته معظم البيانات والتصريحات والتعليقات لمسؤولين في قمة الحُكْم، لم ألحظ، كما زملاء كثيرين في المهنة، مَن يقول كلاما مثل الذي سمعنا مثيله أكثر من مرة من الملك عبد الله بن عبد العزيز، ولا عايشْنا حالة شبيهة بحالة كبير الكيانات العربية مصر، كاد يهزه طيف من بني قومه غشيت أبصارهم وغاب الوعي عندهم مفترضين أن وطنهم هو قطاع خاص. كما لم يحدث أن عشنا حالة ارتباك أكثر جمْع متآلف ومتعاون وصامد ثم عندما داهمتْه عوارض الاهتزاز وجد من يتدارك الأمر في اللحظة المناسبة ويثبِّت بالحكمة والحنكة وبُعد النظر أساسات هذا الجمْع الذي هو الكيان الخليجي.
في أحدث 3 حالات لما نشير إليه، على سبيل المثال لا الحصر، عبارة وردت في سياق كلمة الملك عبد الله أمام وزراء التعديل الوزاري الأشمل يوم الأحد 11 ديسمبر (كانون الأول) 2014، بعد شهر من اليوم الذي حدثت فيه لحظة التدارُك لمصير الكيان الخليجي يوم الأحد 14 نوفمبر (تشرين الثاني).
كلمة الملك عبد الله أمام الوزراء الـ9 الآتين من تجارب في المسؤولية إلى الاختبار الأهم، كانت من نوع «ما قل ودل». ولقد اعتدنا على خادم الحرمين يوجه في خلال الكلمة التي يلقيها في مثل هذه المناسبات نصيحة أو تنبيها على نحو حثه الوزراء في جلسة إقرار ميزانية عام 2012 بأن «يراعي كل مسؤول الله في كل وقت ومكان، ويعمل على خدمة دينه ووطنه مستشعرا عِظم الأمانة التي يحملها..». لكنه في أحدث المناسبات التي هي أداء الوزراء الـ9 الجدد اليمين أمامه، أورد في كلمته عبارة يحتاج إلى التأمل فيها أولئك الذين في قمة السلطة لا يقتدون بشمائل، من بينها تواضع أولياء الأمر في الزمن العربي الغابر الذين لهم حضور في أدبيات الحكم وتراثه، وهؤلاء ينتسب في زمن الحاضر إليهم الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي قال للوزراء الجدد: «أول شيء ابدأوا بالصدق. لا أريد فقط من أنا أُعلِّمه. أريد أيضا مَن هو يعلِّمني..».
هذه المفردات التي انطبعت في ذاكرة الوزراء الجدد ستنطبع من دون شك في ذاكرات آخرين، وستذهب مثلا في كيف أن ولي الأمر المقتدر الواثق من نفسه المؤمن بشعبه وبوطنه زوَّد الوزراء الـ9 الجدد بتدعيم معنوي لم ينله وزراء جدد أو أقدمون في العالم العربي. وجاء التزويد عشية مشاركة الـ9 في جلسة مجلس الوزراء للمرة الأولى.
وإلى ذلك، إن هؤلاء شعروا وهم في قصر الملك عبد الله، حيث أدوا القَسَم، أنهم في بيت الوالد الذي يدعو لأبنائه بالتوفيق ويبارك لهم هذه الثقة بهم، لكن الابن يبقى قرة عين والده ما دام يتقي الله في عمله وفي سلوكه. وكم من حالات لا يأخذ الأبناء بهذه السلوكيات في تأدية المسؤولية، يكون الندم نتيجة ذلك بعد فوات الأوان. وهذا في إطار العائلة الشخصية. أما في إطار عائلة الوطن المسؤول عنها ولي الأمر، فإن رضى ولي الأمر عن سلوك المسؤول يكون من رضى الشعب. ولعل حِرْص الملك عبد الله على ما يضيء عليها في مفردات منتقاة هو من أجل أن يبدأ المسؤول تأدية الواجب بلهفة المتطلع إلى أن يقول بعد حين: لقد أديتُ الواجب على نحو ما أراده ولي الأمر. والدليل على ذلك أن بني قومنا من غرب المملكة إلى وسطها فإلى شرقها، ومن جنوبها إلى شمالها، راضون عما أُنجز بعون الله ودعم ولي الأمر. وفي هذه الحال يصبح إفساح المجال لكوكبة تالية مستحقا الإشادة، لأن لا شُكر على واجب ومستحقا ربْط المغادرة بعبارة «بناء على طلبه».
تلك هي الحالة الأحدث. أما الحالة التي سبقتْها فكانت تجسيدا لصفاء خاطر ولي الأمر وقلقه على أن لا يتصدع الصرح الذي بُني، وخصوصا أنه صمد. وعندما تصمد صيغة مجلس التعاون الخليجي 3 عقود، فإن منطق الأمور يوجب التصميم على المزيد من التطوير والمزيد من التدعيم وليس الإصغاء إلى تنظيرات تأتي من بعيدين أو طارئين أو حاسدين أو مبتزين. وعندما لا يحدث ارتداع حرصا على التجربة نرى ولي الأمر يقتحم بالحكمة والحنكة الحالة الأصعب في الأزمة ويحقق من أجل الجميع، قادة وشعوب، إنقاذا نوعيا كان، إذا جاز التشبيه بلغة حقبة التفجير السائدة، مثل لغم مزروع فارتاحت النفوس واطمأنت القلوب لتعطيله وانحسرت رهانات المراهنين على شق الصف. وأيا كانت التقديرات لما تحقَّق في القمة الخليجية في الدوحة يوم الثلاثاء 9 ديسمبر 2014، فإن المردود الأهم هو في الانعقاد أولا. وعندما يقاس ما تم التوصل إليه في هذه القمة، فإن ذلك لا يكون بما انتهت إليه القمة، وإنما باللحظة الأولى لالتئام الشمل والتوجه إلى قاعة الاجتماع ومن دون التوقف حول ما سيُبحث وماذا سيُتخذ. وفي هذا الإطار يكون لقاء القادة أو مَن يمثِّل بعضهم الذي تم في قصر خادم الحرمين الشريفين في الرياض، حاضرا في مقر القمة في دوحة الشيخ تميم بن حمد مثل طيف، ويكون كل من الذين شاركوا يستحضر لحظة التفهم والتوافق التي جاءت كواحد من ابتكارات الملك عبد الله بن عبد العزيز في ساعات الشدة العربية من أجل أن تزول هذه الشدة.
وتبقى الحالة الثالثة التي ترمز لقدرة القائد المسكون بهموم أمته، وبالذات بالذين جارت عليهم مغامرات ضل القائمون بها طريق التعقل، مفترضين أن الكيانات لعبة وأنها مُلْك أهوائهم وأغراضهم. وهنا يستوقفنا ما ارتآه الملك عبد الله بن عبد العزيز من أجل إبلاغ من يجب إبلاغهم داخل مصر وخارجها، أنه مثلما أن للكعبة ربا يحميها، فإن للمحروسة حادبين عليها لكي لا يعبث بها العابثون. في البداية كان الحدب كلاما قاطعا من حيث الحرص والمبدئية، وبعد الكلام القاطع مزيد منه ثم نجدات أخوية مليارية. واستكمالا لعلامات الحدب الأخوي والقومي من أجل تعزيز شأن مصر واستعادة دورها القومي، جاءت الزيارة العفوية من جانب الملك عبد الله للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي لم يكن التقاه بعد، وإن كانت هنالك معرفة به في زمن عمل خلاله السيسي ملحقا عسكريا في السفارة المصرية بالرياض. والقول إنها زيارة عفوية لأنها تمت في مطار القاهرة (الخميس 20 يونيو/ حزيران 2014) وداخل طائرة الملك عبد الله العائد من إجازة في قصره بالدار البيضاء. وعفوية لأنه أراد أن يكون البادئ بلقاء الرئيس الواعد لبلده ولأمته، وليس المنتظر زيارته أولا في الرياض. وعفوية لأنها جاءت تبعث في الذاكرة أهمية لقاءات الزعامات العالية المقام أمثال لقاء الملك عبد العزيز، طيَّب الله ثراه، والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، على متن طرّاد فوق مياه قناة السويس (15 فبراير/ شباط 1945). وعفوية لأن الملك عبد الله أوحى من خلالها أن مصر هي جامعة الجناحيْن: الجناح المشارقي والجناح المغاربي. قوتها قوة للأشقاء وبالعكس، واستقرارها استقرار متبَادَل بين كل دولة وبينها. وعلى هذا السبيل سائرة الأمور بينما العيون ساهرة وبكامل اليقظة والقلوب عامرة بكل التعاطف والعقول مسكونة بالتفهم والمشاعر في منأى عن الطمع والحسد وهواجس الاستئثار والمتاجرة اللفظية بقضايا عالقة مثل قضية فلسطين التي لولا مبادرة الملك عبد الله التي انتهت مبادرة عربية بالإجماع، لما كنا سنشهد في عام 2014 هذا التبدل النوعي في مواقف دول أوروبية رأت في المبادرة أنها خير حل، فبدأ الاعتراف، حكومة أوروبية بعد حكومة، بالدولة الفلسطينية المأمولة. وهكذا فإن هذه الخطوة التي يبدو كل فلسطيني كثير الامتنان لها، نستثني القلة المحلقة في فضاءات غير واقعية، تشكِّل مع وقْف التفكك الخليجي بفعل «قمة مصالحة» في الرياض استكملت بـ«قمة فرح» في الدوحة وسبقتهما وقفة تاريخية إزاء مصر المتطاوَل عليها ومساندتها سياسيا واقتصاديا وماليا من أجل استعادة استقرارها وتأدية الدور للأمن العربي، تجعلنا نرى وبالذات مع بداية التأسيس لاستعادة العراق إلى بني قومه العرب تمهيدا لفكْ سوريا من الفخ غير العربي الذي أوقعها الرئيس بشَّار فيه، واستعادة اليمن عقله، ولبنان وعيه، أن عام 2014 كان عام الملك عبد الله بن عبد العزيز، جعله المولى عز وجل من عواده لكي يمد الأمة بالمزيد من العزْم كونه من الذين يلخّص الشاعر حالهم بالقول: على قدْر أهل العزْم تأتي العزائم.