من أشهر مقولات الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن عبارة «تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكنك لا تستطيع خداع كل الناس كل الوقت». وهو بطريقة أو بأخرى ينطبق على ما يحصل اليوم في الشرق الأوسط، وكذلك على مقاربة واشنطن الإشكالية لأزماتها، المُزمنة منها والطارئة.
لنكولن، ذلك الزعيم العظيم - الذي كان أول رئيس أميركي يسقط برصاص الاغتيال - تولى الرئاسة في فترة صعبة من تاريخ أميركا، إذ انقسمت البلاد وشهدت حربا أهلية مدمّرة انزلقت إليها بسبب إصرار ولايات الجنوب على ما تراه حقها بالإبقاء على الرّق. ومع أن الحرب برمّتها اتخذت طابع تحرير العبيد، واشتهر لنكولن بـ«محرّر العبيد»، فإن الجانب الأهم كان ما يتعلق بتركيبة النظام الاتحادي (الفيدرالي) وتعريف الحد الذي ينتهي معه حق الولاية، ويبدأ حق الكيان الاتحادي الكبير. ولعل من أهم ما يُسجل للنكولن على صعيد صون الكيان الاتحادي حرصه على تحاشي معاملة ولايات الجنوب التي خسرت الحرب كفريق مهزوم، وسعيه لتأكيد المساواة بينها وبين ولايات الشمال تحت سقف الاتحاد.
ولقد أدرك لنكولن بمثاليته وحكمته ووعيه السياسي العميق استحالة بناء شراكة في وطن واحد على أساس «غالب ومغلوب»، وأنه من العبث توخّي الولاء من أحد مكوّنات هذا الوطن إذا ما حُشر قسرا في زاوية اللوم، بل والإدانة، وجاء منافس أو شريك ليحاضر عليه في الوطنية والفضيلة.
وكما يُخبرنا التاريخ الأميركي، أدّت الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865) بمجرد انتهائها إلى انهيار الحزب الجمهوري (حزب لنكولن) - المؤمن بأهمية الحكومة المركزية - في عموم ولايات الجنوب، مقابل نجاح الحزب الديمقراطي - المدافع عن حقوق الولايات – في احتكار الحياة والسلطة في هذه الولايات فعليا حتى الحرب العالمية الثانية. ومع هذا لم تعاقب الحكومة الاتحادية ردة فعل الجنوبيين ولم تتّهمهم بالتكتل الحاقد ضد الدولة، ولا بالعصيان المفتوح. وبمرور السنين والعقود تطوّر الفكر السياسي والمصالح الفئوية والطبقية، وتغيّرت الهوية الفكرية للحزبين.. فغدا الحزب الجمهوري «الحصن الحصين» لليمين المحافظ وفقد الكثير من نفوذه التقليدي في ولايات الشمال الليبرالية، بينما صار الحزب الديمقراطي «ملاذ» الليبراليين الوسطيين والعلمانيين واليساريين والنقابيين. وبالتالي، انهار بصورة شبه كاملة في ولايات الجنوب التقليدية المحافظة.
فوز الديمقراطي الأفريقي الأصل باراك أوباما بالرئاسة، ومشهد دموع جيسي جاكسون – أول أميركي من أصل أفريقي – طمح عمليا إلى دخول البيت الأبيض.. جاء تتويجا لانتصار لنكولن، على الرغم من تغيّر الهوية الحزبية.
انتصار أوباما تحت شعار «التغيير» حمل في حينه دلالات ومؤشرات ضخمة. ومع نجاح معالجة الرئيس الجديد الواقعية للأزمة الاقتصادية التي أسهمت «دوغماتية» الجمهوريين اليمينيين في تفاقمها، وكذلك تعهده بوقف المغامرات العسكرية بعيدا عن التراب الأميركي التي استحق عليها باكرا جائزة نوبل للسلام، استطاع الفوز مجددا بالرئاسة بعد 4 سنوات من انتصاره الأول. غير أن المقاربة العملية أو «البراغماتية» التي تميّزت بها فترة رئاسة أوباما الأولى تحوّلت، على ما يبدو، لاحقا إلى «دوغماتية» تشبه من حيث حدّتها «دوغماتية» اليمين الجمهوري.. ولكن في الاتجاه المعاكس.
هنا، نسي أوباما، أو تناسى عمدا، أن الولايات المتحدة ليست دولة متوسطة الحجم يكفيها التركيز على قضاياها الداخلية. وتوهّم أنه طالما لم يفتعل أزمات خارجية تبرّر تدخله في دول بعيدة عن أميركا فإن بلاده ستبقى آمنة بمعزل عن الأزمات الإقليمية والفئوية.. وتداعياتها السياسية والأمنية والاقتصادية. ولكن، فيما يخصّ الشرق الأوسط، بالذات، جاءت رهاناته مكلفة جدا، وقد لا يتبين حجم كلفتها الحقيقية إلا في غضون بضع سنوات.
بدايةً، كان موقف أوباما مُلتبسا في تعريف ظاهرة «الإسلام السياسي» بشقيه السنّي والشيعي.. ورسم استراتيجية متماسكة حيالها، سواء في العالم العربي أو تركيا. ومن ثم، التزاما منه باحترام تعهده بألا يُنشر عسكريون أميركيون على أراضي الغير بعد سحب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق، اختار فكرة «القيادة من المقعد الخلفي» تاركا الدول الحليفة في الواجهة، كما حدث في ليبيا.
وكان موقفه أيضا مُلتبسا إزاء فهمه، ومن ثم تعاطيه، مع تداخل العاملين «العربي» و«غير العربي» في المنطقة. فهو مع استسلامه لرفض اليمين الإسرائيلي تقديم أي تنازلات تنقذ مسار السلام الفلسطيني الإسرائيلي، وبالأخص، في موضوع وقف الاستيطان، اعتمد ضمنيا مبدأ التعاون غير المشروط مع طهران. وحقا، أثبتت الأزمة السورية، ثم ظهور «داعش» بالصورة التي ظهرت بها في كل من العراق وسوريا، أن التعاون مع حكّام إيران جزء أساسي من منظور أوباما للخارطة السياسية والاستراتيجية الإقليمية بصرف النظر عما يفعلونه على امتداد المشرق العربي.
اليوم، باستثناء تصريحات المسؤولين الأميركيين العابرة عن الملف النووي الإيراني أو عن «فقد نظام الأسد شرعيته»، نسمع ونرى حقائق ومتغيّرات على الأرض، منها كلام مسؤولين إيرانيين عن أن 4 عواصم عربية تخضع اليوم للنفوذ الإيراني، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
ثم بعد كلام أوباما التاريخي في مقابلته مع خدمة «بلومبرغ فيو» (مع الصحافي جيفري غولدبرغ) في مطلع مارس (آذار) الماضي، الذي تضمن الثناء على «تفكير إيران الاستراتيجي غير الانتحاري» ولوم حلفاء أميركا الإقليميين على غفلتهم قبل أن يفاجأوا بـ«الربيع العربي»، ها هو نائبه جو بايدن يذهب أبعد من اللوم..
إن اتهام بايدن المباشر 3 دول شرق أوسطية وصفها بـ«الحليفة»، في قلب جامعة هارفارد إحدى منائر الفكر والسياسة في أميركا، بدعم الجماعات المتطرّفة في سوريا اتهام خطير لأنه ينمّ عن التفكير السياسي الحقيقي لإدارة أوباما إزاء المنطقة. وسواء اعتذر بايدن أم لم يعتذر.. فإن الأزمة الحقيقية في مكان آخر.
إنها أزمتنا مع تفكير الإدارة الحالية التي تتمتع بذاكرة انتقائية فظيعة في موضوع دعم الإرهاب والتطرّف.
8:7 دقيقه
TT
المهم ما يفكر به أوباما.. لا ما يقوله بايدن
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة