يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

لم ينتهِ «داعش» رغم مشهد الختام الهوليوودي

الأفكار لا تموت، وتنظيما «داعش» و«القاعدة» وأخواتهما، بنيت على فكرة قد تدخل النفق وتظل فيه مختبئة كما كان الخليفة المزعوم أبو بكر البغدادي الذي أعلن الرئيس ترمب مقتله فيما يشبه لقطة ختامية هوليوودية سعيدة في حين أن مسلسل التطرف قطعاً لا يزال باقياً وقد يفاجئنا بمواسم أخرى مرتقبة.
مسرحة مقتل البغدادي كما أعلنها الرئيس ترمب حدث لا يقل أهمية عن زوال خليفة «داعش». ما يقرب من ساعة كاملة حرص فيها ترمب بعد أن أخذ الأسبقية كعادته الأثيرة بتغريدة مثيرة قال فيها إن حدثاً كبيراً قد حصل، لقطع الطريق على التسريبات المحتملة التي كان يتم تداولها، في ظل تحول مناطق النزاع والتوتر بين سوريا والعراق إلى مسرح عمليات وإشاعات، ليس فقط فيما يخص التنظيمات الإرهابية بل بين الدول الفاعلة على الأرض من روسيا الصاعدة إلى الأكراد الذين شعروا بالخيانة ولا يزالون، إلى الاستخبارات العراقية التي لم تنس نصيبها من كعكة الانتصار بالإعلان سريعاً بأنها من قامت بإرسال المعلومات حول مكان البغدادي، لكن أحداً لم يشر في ظل الحرص على أخذ بطولة السهم الأخير الذي أصاب قلب الخليفة إلى التفاصيل التي تحدث عنها شخص لم يرغب في نشر اسمه للصحافة الأميركية عن خيانة لقيادي «داعش» ضاق ذرعاً بما آل إليه التنظيم، وقام بالحديث إلى الأكراد في ظل ظروف اعتقاله مع الآلاف من المقاتلين والعائلات الداعشية.
في بيان ترمب الذي كان إعلاناً استباقياً لترشحه لرئاسة مقبلة أكثر من كونه إعلاناً لنهاية البلطجي الذي مات مذعوراً ومتنحباً كالكلب، بحسب تعبير الرئيس الأميركي. وكان أوباما ومشهد مقتل بن لادن الذي كان مقتضباً في تسع دقائق فقط حاضراً بقوة أيضاً حين انتقص أوباما كل من سبقه من رؤساء الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب، معتبراً أنه أشار في نبوءة سابقة له عبر كتاب قام بتأليفه عن أنه توقع أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وضرب برجي التجارة كما قال، وهو ما تناوله الباحثون والصحافيون الديمقراطيون المناهضون لترمب بانتقاص مضاد بأن ذكر بن لادن جاء عابراً، لكن هذه المعركة المتبادلة حول عرش الولايات المتحدة تقودنا إلى فهم أهمية مسرحة مقتل البغدادي للانتخابات المقبلة، ولكنها أيضاً تفتح شلالاً من الأسئلة حول السؤال الأكثر أهمية؛ مستقبل التطرف والإرهاب في المنطقة في ظل بقاء الأزمات السياسية والانسحاب من المسؤولية العسكرية والقانونية، وترك مناطق التوتر في سوريا لصراع بين قوى دولية تسعى إلى الهيمنة بحجة مكافحة الإرهاب الذي تحول إلى رأس مال سياسي وحجة بقاء أكثر من كونه معضلة عالمية تقتضي البحث عن جذوره وأسبابه والحلول التي يجب أن تكون مبنية على تضافر المؤسسات الدولية وبرامج إعادة البناء والتأهيل وحرب الأفكار وليس مجرد تتبع لقادة الإرهاب ورموزه وتضخيمهم باعتبارهم المعضلة الأولى والأخيرة، في حين أن بقاء الأفكار المتطرفة بالضرورة ينتج شخصيات يمكن أن تأخذ طريقها إلى القيادة بسهولة مع توافر الإمكانات والظروف، وهو ما بدا واضحاً وجلياً في سيرة البغدادي نفسه الذي لم يكن منذ بداياته المتشددة في العراق سوى متطرف لا يأمل أكثر من دور في التأثير على محيطه ليتحول بعد احتجازه في السجون الأميركية وهي القصة المهملة في مسلسل الإرهاب المتكرر.
البغدادي في ذلك السجن قام بإنشاء روابط كثيرة مع شخصيات تحمل معه بذرة التطرف ليقوم باستثمارها وسقايتها، ثم مع خروجه الذي ظل حتى اليوم لغزاً كبيراً لم يفعل سوى أن قام بمشاهدة شجرة الإرهاب الضخمة تمتد أغصانها في العراق وسوريا ويقوم من منبر في مسجد بالعراق بإعلان الخلافة على مرأى ومسمع من العالم ليتحول ذلك الإعلان إلى دولة اختارت الأدوات التسويقية الغربية، فالشعار «باقية وتتمدد» والإعلام التقني الذي ينافس في كبريات وكالات صناعة المحتوى البصري كان حاضراً في تنميط صور القتل في أكثر تجلياته بشاعة ورعباً، ولاحقاً يقوم البغدادي بخلق وهم دولة الخلافة التي كانت حاضرة في عالم موازٍ هو عالم الإنترنت وامتدادات على الأرض لا تجسّد حقيقة الولايات قدر أنها استغلت الفشل السياسي في إدارة أزمات المنطقة وإهمال المجتمع الدولي لمسألة الإرهاب التي شملت كل شيء تقريباً؛ من الاتفاق على تعريفه وصولاً إلى قنوات تمويله والدعم اللوجيستي وخطابات الكراهية والطائفية التي كان ولا يزال كثير من مضخاتها تنطلق من عواصم غربية تحت مسمى حرية الرأي، وصولاً إلى استغلال دول بعينها قد تشارك البغدادي حلم الخلافة لكن بصيغ أخرى سهلت مرور المقاتلين عبر أراضيها إلى مناطق التوتر. والمفارقة أن البغدادي الذي دخل النفق بعد أن ضاق عليه الخناق كان يفكر في الهرب نحو تلك البلدان بعينها، وكان هناك أيضاً إعلام موازٍ كقناة «الجزيرة» التي كانت مرتعاً لظهور قيادات التطرف وراعية لخطاب الإسلام السياسي الذي يعتبر ماء الشرعية التي تسقى عبره بذور التطرف، وعلى مرأى من العالم كله خرج من يبايع البغدادي على القناة دون مساءلة، في حين أن القناة ومثلها المواقف التركية تستخدم «التقية» السياسية في الحديث عن «داعش» و«القاعدة» والإرهاب، على اعتبار أن ذلك نتيجة وليس سبباً، وتجلت تلك البراغماتية مع مسارعة الرئيس التركي إردوغان إلى التنافس في اختطاف المشهد بقوله إن تركيا هي من دفعت الثمن الأكبر في الحرب على «داعش».
خصوم ترمب أيضاً حاولوا الاستثمار في مقتل البغدادي؛ نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب صرحت بأن ترمب قام بإخبار الروس وبوتين بعملية مقتل البغدادي قبل أن يخبرهم وأن ذلك أزعجها، وآخرون اعتبروا أوصاف ترمب تجاه البغدادي ستشكل مصدر خطر على أمن الولايات المتحدة لأنها ستوقظ حفيظة بقية الإرهاب ومن بينهم الذئاب المنفردة، في حين هرعت الدول الغربية إلى أخذ الاحتياطات الأمنية عقب مقتل البغدادي تحسباً لأي ردة فعل، بينما حاول ملالي إيران التشغيب على مقتل البغدادي عبر المتحدث باسم الحكومة الذي صرح بأن أميركا هي التي أنتجت إرهاب «داعش» بنهبها لنفط المنطقة ودعم الاستبداد.
لكن السؤال: ماذا عن تنظيم داعش الذي يستثمر الجميع الآن في مقتل خليفته؟! ما يقوله العقل الإرهابي في مسيرته الطويلة والمتجددة إنه قد ينحني للعاصفة ويدخل النفق كما البغدادي، لكنه مهما طالت مرحلة الكمون والصمت سيخرج مجدداً ليثبت أن شخصنة واختزال معضلة العالم الكبرى الإرهاب في مقتل أفراد لا يعني أكثر من لقطة ختامية مجتزأة لمسلسل سيظل باقياً مسبباته، وللحديث بقية.