سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

عن كليهما

عرف القرن الماضي حربين عالميتين ورجالا كثيرين. كان بعضهم، بالنسبة إلى بعضنا، رمز الشر أو الخير، الربح أو الهزيمة، العبقرية أو الغباء. لكن الأعداء والحلفاء اتفقوا في ما بعد على نظرة واحدة إلى «المنقذين». أشهر هؤلاء كان البريطاني ونستون تشرشل والفرنسي شارل ديغول. الأول عرف كيف يقود بريطانيا من تحت ضربات هتلر ويستعيدها من الهزائم، والثاني كيف يستعيد فرنسا من الاحتلال الألماني وخيانة رئيسه السابق، المارشال فيليب بيتان.
كان تشرشل في الحرب الأولى مراسلا حربيا، وكان ديغول ضابطا صغيرا. لم يخض أي منهما معركة عسكرية مهمة، لكنهما خاضا الحرب بفكر عالٍ وهمَّة عالية. التقيا في لندن، واحد رئيس للوزراء والآخر جنرال منفي يعمل في كنفه ويحتاج إلى مساعدته. الأول كان فيه الكثير من ازدراء الإنجليز للفرنسيين، والثاني كان فيه الكثير من مرارة الفرنسيين على الإنجليز. لكن عداوة الأمس تحولت إلى مصالح اليوم، فكان على كل منهما أن يضع جانبا رأيه في الآخر ومشاعره حياله.
كانا متناقضين في كل شيء: البريطاني يحب السيجار والمآدب والسيارات واليخوت والثياب، والثاني متقشف لا يفرط إلا في الحساء. وعندما اعتذر وزيره فاليري جيسكار ديستان عن عدم تناول الحساء على مائدته، شعر بالإهانة وقال له بكل جديّة «كيف للمرء أن يكون فرنسيا ولا يحب الحساء؟».
كلاهما أنقذ بلاده من الهزيمة الكبرى، وكلاهما أخرجه الناخب السطحي من الحكم. كان الفارق هائلا بين رجل عادي وبين رجل يصنع التاريخ وهو يتناول فطور الصباح. لم يطق الرجل العادي ثقل هذا الفارق فاستلّ سلاحه الوحيد: ورقة الاقتراع. وتركهما يحصدان من التاريخ ما قد كفى.
لماذا الكتابة عن تشرشل وديغول اليوم؟ ما الجديد في الأمر؟ لا شيء. لكن وأنا أعيد قراءة الجزء الأول من مذكرات ديغول، شعرت بأن أكثر ما جمع بين الرجلين المتعارضين، هو أن كليهما كان، أولا وأخيرا، أديبا من طراز أعلى.. كليهما وعى معنى الكلمة وأهمية التاريخ.. كليهما أدرك أن صناعة التاريخ لا تكون ولا يمكن أن تكون بإرضاء الرجل العادي وإنما بتجاهل محدودياته وقصر نظره ونفاد صبره وجبنه في الملمّات.
كل رجل كبير هو قارئ كبير. في الحوار الشهير بين ديغول ووزير الثقافة أندريه مالرو، يبدو الجنرال أكثر علما من وزير ثقافته. قامتان من الإحساس بالكرامة البشرية وعمق التاريخ. وأساليب مختلفة. إذا كنت تبحث عن الشاعرية والعناية الأدبية، فلا تقرأ تشرشل. إذا كنت تريد التفاصيل المجردة، فهو تلك التفاصيل. إذا أردت صورة للإنسان في ضعفه وصدقه وعدم اهتمامه بالوجاهة، فعليك بأندريه مالرو. بحر.