نحن أمام حرب غير تقليدية بشروطها بقواعدها بظروفها بطبيعة خصومها تخوضها الدول العربية في الشرق الأوسط، الحرب لا مع إسرائيل عدوها التقليدي تخوضها بسلاح الطيران أو مضادات الصواريخ، إنما هي مع «جماعات» محلية عربية مسلمة متحالفة مع حكومات أجنبية وتسندها منظومة دولية كاملة حقوقية وإعلامية.. جماعات عابرة للحدود تستند لقواعد شعبية شرعت لنفسها التحالف مع الحكومات الأجنبية والاستعانة بهم لإسقاط الأنظمة، وأكدت الدوائر الاستخباراتية ذلك التحالف بعد أن نجحت هذه الجماعات في طرح نفسها ممثلا للشعوب وممثلا للاعتدال، وقد صرح جيمس ويلسي رئيس الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) السابق في يوليو (تموز) 2013 بـ{إننا سنهز عروش الأنظمة العربية بالاستعانة بشعوبهم عليهم}، وقد وجدوا ضالتهم في تلك الجماعات.
اتخذت معظم الدول العربية، ومنها الخليجية، إجراءات مشددة على «الجماعات الدينية» بعد انكشاف دورها المتآمر فيما سمي بالربيع العربي، سواء كانت الجماعات سنية ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين أو كانت شيعية ممثلة في جماعة الولي الفقيه، بذراعها العسكرية، حين حملت السلاح مباشرة في وجه الدولة، كما هو حزب الله أو {داعش} أو الإخوان في مصر، أو كانت ذراعا سياسية لها كما هو حزب الوفاق في البحرين وحزب الحرية والعدالة في مصر، فعلى اختلاف مهامها عملت جميعها على إسقاط الأنظمة متحالفة مع حكومات أجنبية.
خطورة تلك «الجماعات» لا تكمن في مشروعها بل في شباكها الدولية العميقة والمنظمة سواء تشبيكها الذاتي أو تشبيكها الأممي، لذا فقياداتها متحركة، وصفوفها الثانية مهيأة في حال قبض على الصفوف الأولى لذلك تجد الدول العربية نفسها اليوم تواجه قوى عابرة للقارات متعددة الجنسيات يتحالف فيها السني مع الشيعي، العربي مع الأميركي مع الإيراني، المحلي مع الدولي، شباكها تتشظى إلى مجاميع صغيرة موزعة في العواصم الفاعلة، بإمكان الواحدة منها أن تربك أي دولة عربية عن بعد.
النموذج الذي سأستعرضه لواحدة من المعارك التي تدار عن بعد على الأنظمة العربية يوضح حجم التشبيك وفعاليته وأثره ليطرح عدة أسئلة مشروعة أتركها لنهاية المقال.
فوجئت مملكة البحرين في منتصف العام الماضي وبعد أن هدأت الساحة الأمنية في الداخل، باشتعال الساحة الإعلامية البريطانية وصدور أكثر من تصريح مضاد من مسؤول أميركي في آن واحد على أثر حملة قامت بها مجموعات صغيرة موزعة في ثلاث قارات، تشكل في مجموعها واحدة من شبكات «الجماعة» نجحت في إرباك الساحة المحلية البحرينية وشكلت ضغطا على النظام!
ففي أوائل شهر مايو (أيار) 2013 دشنت مجموعة أطلقت على نفسها اسم «رابطة الصحافة البحرينية» - لا يزيد عددها على عشرة أشخاص من الصفوف الثانية في جماعة الولي الفقيه اتخذت من العاصمة البريطانية مقرا لها طالبة اللجوء السياسي، دشنت حملة ضد البحرين؛ بدأتها بإصدار تقرير بعنوان «البحرين: الصمت جريمة حرب» دعت لها صحف بريطانية ودشنت حسابا لها باللغة الإنجليزية على مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي السابع من الشهر نفسه عقدت مجموعة ثانية صغيرة من ثلاثة أشخاص أطلقت على نفسها اسم «منتدى البحرين لحقوق الإنسان» في بيروت مؤتمرا صحافيا أعلنت فيه عن شن حملة دولية تحت عنوان «البحرين عاصمة التعذيب».
- أما في المنامة فقد أعلنت جمعية الوفاق عن حملة تحمل العنوان نفسه، وتمتد من 8 مايو إلى 16 مايو، وذلك بالتزامن مع المؤتمر الصحافي الذي عقد في بيروت.
- وفي الفترة من 6 إلى 13 مايو نظم «المرصد البحريني لحقوق الإنسان» - الذي تديره مجموعة أخرى بعضها شريك في المجموعات السابقة - زيارة لواشنطن بوفد يضم ممثلة لجمعية «وعد»، ورئيس «جمعية الشفافية» البحرينية، والنائب السابق في «جمعية الوفاق»، والتقى الوفد مسؤولين بالخارجية الأميركية، ومساعدين لأعضاء مجلسي النواب والشيوخ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وبعض المنظمات المجتمعية والمؤسسات العلمية وعلى رأسها جامعة جورج واشنطن.
- وفي الأسبوع الثالث من شهر مايو شكل «المرصد» وفدا آخر إلى العاصمة الفرنسية باريس برئاسة رجل دين شيعي من الجماعة قابل وكيل وزارة الخارجية الفرنسية لشؤون الشرق الأوسط، ومجموعة من أعضاء الحزب الاشتراكي الحاكم في المجلس الوطني، وقيادات من الحزب الشيوعي، والحزب الأخضر.
- وتزامن ذلك مع أنشطة جماهيرية وفعاليات إعلامية وتصريحات نارية أطلقها «ملالي» في العراق وإيران عبر قنوات التحريض الطائفي ومواقع التواصل الاجتماعي طوال شهر مايو من ذلك العام.
أما بالنسبة للتمويل والترويج والدعم الذي حظيت به هذه الحملة - وهنا الإشكالية - فقد كانت مصادرها بعض الجهات الرسمية الأميركية والبريطانية والمنظمات الدولية مثل «منظمة «مراسلون بلا حدود» التي قامت بتوفير المظلة الجامعة لأنشطة أعضاء رابطة الصحافة البحرينية المعارضة في لندن.
- تكفلت منظمة (National Endowment for Democracy) الأميركية بدفع مصاريف الحملة، حيث قدمت لرابطة الصحافيين المعارضين مبلغ 77 ألف دولار من أجل إصدار تقرير «البحرين: الصمت جريمة حرب»، وذلك نقلا عن الموقع الرسمي للمنظمة.
- و30 ألف دولار من منظمة (National Democratic Institute) التي كشفت عن تقديم برامج للتدريب: «مدافعين عن حقوق الإنسان» في البحرين دون ذكر أسمائهم أو طبيعة البرامج التي تم تنفيذها، في حين ذهب النصيب الأكبر من تمويل هذه المنظمة إلى «جمعية الشفافية» التي تلقى رئيسها خلال هذه الفترة 50 ألف دولار، وجدير بالذكر أن منظمة (NDI) كشفت أنها قدمت لما سمته «برامج التحول في البحرين» في سنة واحدة فقط (أي في عام 2012) مبلغ 320 ألف دولار نظير أنشطة لم تعلن عن تفاصيلها.
- أما الجزء الأكبر من التمويل فقد ذهب إلى جمعية الوفاق وأعضاء المجلس العلمائي الذي حظي باهتمام رسمي في جولته بفرنسا والولايات المتحدة، حيث احتضنه القائمون على مركز «ديربورن» الإسلامي بولاية ميشيغان، ونظموا له فعاليات حضرها ممثل ولاية ميشيغان في الكونغرس الأميركي، وذلك بالتعاون مع نادي «بنت جبيل» الثقافي الذي يجمع في عضويته شخصيات لبنانية تعمل لصالح «حزب الله».
- ومن جانبها تولت منظمة USAID مهمة الترويج والدعم اللوجستي، حيث رتب لهذه اللقاءات شركة (Fenton Communications) للعلاقات العامة وهي تمثل في الوقت ذاته «مجلس العلاقات الأميركية - الإيرانية» (National Iranian American Council) الذي ينشط من خلاله اللوبي الإيراني في أميركا.
بعد أن حلت مصر الجماعة والمملكة العربية السعودية والإمارات اعتبرتهما جماعات إرهابية يجرم من يتعامل معها، والكويت أسقطت الجنسية عن بعض قياداتها، والبحرين أصدرت أحكاما قضائية على بعض قيادات جماعة الفقيه الشيعية، يطرح هذا النموذج حجم وطبيعة وخطورة «التشبيك الدولي» مع هذه الجماعات، وطبيعة الحرب القادمة التي ستواجهها الدول العربية، وأن الولايات المتحدة مصممة على «التغيير» وفق رؤيتها في المنطقة ومصممة على فوضاها وأحصنة طروادة تعرض نفسها على قارعة الطريق كبديل.
لذا فإن مواجهة هذه الحرب بالأساليب التقليدية لن تجدي، وإن معركتنا ليست هنا على أرضنا مع أحصنة طروادة فحسب، بل إن معركتنا الأساسية هناك على أرضهم وعند مواقع قرارهم.. هذه حرب ذات طبيعة غير تقليدية تحتاج أن نفكر لها خارج الصندوق.
8:37 دقيقه
TT
حرب الشرق الأوسط الجديدة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة