هاشــم صالــح
كاتب وباحث ومترجم سوري، يهتم بقضايا التجديد الدّيني ونقد الأصولية ويناقش قضايا الحداثة وما بعدها.
TT

على نفسها جنت براقش!

هذا ما يقوله خبراء الغرب الذين لا يكنون لإسرائيل إلا المودة والمحبة، بل والحريصون عليها أكثر منها. إنهم يعتقدون أن السياسات الطائشة لقادة اليمين الإسرائيلي لن تؤدي إلا إلى الجدار المسدود، بل وسترتد عكسا عليهم في نهاية المطاف. أذكر من بينهم رينو جيرار المحلل الاستراتيجي والخبير في شؤون المنطقة العربية، وهو من الأصوات العقلانية المسؤولة في فرنسا، بالإضافة إلى كونه المراسل الاستراتيجي العالمي لجريدة «الفيغارو»، أقدم الجرائد الفرنسية وأعرقها. إنه خبير متخصص ميدانيا في الصراعات والحروب، وقد لمع هذا العام بكتابين جديدين صدرا قبل أسابيع؛ الأول بعنوان: «العالم يتحرك»، أي يتقدم إلى الأمام رغم كل شيء ومن خلال الصراعات والنزاعات والفواجع. وفيه يرصد أهم الأحداث العربية والعالمية، ويقدم شهادات حية عن قادة العالم والفاعلين الأساسيين فيه، بدءا من الأصوليين التكفيريين وانتهاء بالجميع، ثم أصدر هذا العام أيضا كتابا مشتركا مع ريجيس دوبريه بعنوان: «ماذا تبقى من الغرب؟» وفيه يردان على الأطروحة القائلة بأن الغرب في طريقه إلى الأفول، ويريان أنه مبالغ فيها جدا؛ فالغرب لا يزال يتمتع بأوراق كبرى كتماسكه غير المسبوق أوروبيا وأميركيا، وكسيطرته على الابتكارات العلمية والتكنولوجية، وكتخريجه لكوادر العالم كله من خلال جامعاته التي لا تضاهى.. إلخ.. أما رينو جيرار فيلح على تفوق الغرب في نقطة أساسية، وهي كونه يحترم دولة القانون والمؤسسات على الأقل بالنسبة لمواطنيه. ولكن هناك نواقص تهدده، من بينها عقدة التفوق التي تعمي بصره، وكذلك رفضه للتضحية الشخصية نظرا لأنانيته أو تعلقه بالشهوات والملذات.
على أي حال ليس هذا موضوعنا هنا رغم أهميته. موضوعنا ليس «أفول الغرب» وإنما «أفول إسرائيل» بسبب سياساتها الحمقاء المغامرة ذات النفس القصير؛ فقادتها الحاليون، وعلى رأسهم نتنياهو، أعماهم غرور القوة والاستهانة بالعرب ومدى قدرتهم على التضحية والفداء. ويرى رينو جيرار أن نبوءة الجنرال ديغول قبل أربعين سنة تحققت الآن. من المعلوم أنه عقد مؤتمرا صحافيا بعد حرب 5 يونيو (حزيران) مباشرة. وأقام الدنيا وأقعدها عندما دعا الإسرائيليين إلى الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة. وقال لهم ما معناه: لقد ضربتم ضربتكم الأولى ونجحتم فيها وشكلتم دولتكم بمعجزة، فلا تزيدوها! إذا أردتم أن تعيشوا في المنطقة بسلام فينبغي أن تراعوا جيرانكم العرب، فهم الأكثر والأعظم حتى ولو انتصرتم عليهم ألف مرة. المنطقة لهم في الأساس وستبقى. وهم الذين يقررون في نهاية المطاف إذا كانوا سيقبلون بكم أم لا.
هذا كلام رجل عاقل، رجل حكيم، قائد تاريخي، ذي نظرة استراتيجية بعيد المدى. ولكنهم نقموا عليه واتهموه بمعاداة السامية وهيجوا الصحافة الفرنسية لتشويه سمعته وهو القائد الأعظم للأمة الفرنسية. حتى العاقل الرصين ريمون آرون فقد أعصابه وشارك في الحملة الهجومية. لقد عاقبوه على تلك العبارة الشهيرة التي وردت في كلامه والتي تقول: «اليهود شعب من النخبة، واثق من نفسه، وميال إلى الهيمنة». عندما سأل الأميرال فيليب ديغول والده عن هذه العبارة صرخ محتدا: ليتني أستطيع أن أقول ذات الكلام عن الفرنسيين أنفسهم! هذا مديح لا هجاء. ولكن ينبغي أن يعرفوا كيف يتوقفون عند حدهم! فبسبب إحساسهم بالتفوق والاستعلاء والذكاء العبقري فإنهم يعتقدون أن كل شيء مباح.
والواقع أن ديغول كان حريصا عليهم أيضا؛ إذ قال ما قاله لأنه اعترف لهم بالحق في العودة إلى «أرض الميعاد»، ولكن ضمن حدود معينة فقط. لقد نصحهم، والصديق كما يقال من صَدَقَك لا من صَدَّقَك. ولكنهم لم يستمعوا إليه وراحوا يواصلون سياسة الاستعمار والاستيطان للأراضي الفلسطينية وبخاصة فيما يدعونه بيهوذا والسامرة: أي الضفة الغربية بالذات. ولكن هل الأساطير الدينية يمكن أن تقود سياسة عقلانية؟
ثم يطرح الباحث الاستراتيجي الفرنسي هذا السؤال: ماذا خسرت إسرائيل باحتلال شعب آخر وقمعه؟ لقد خسرت سمعتها الدولية ولطخت يدها بدماء المقموعين المحتلين: أي الشعب الفلسطيني ذاته. انظروا ما يحصل في غزة حاليا أمام أنظار العالم كله. ثم يردف: في الستينات من القرن الماضي كانت إسرائيل تحظى بسمعة دولية وبإعجاب حقيقي من طرف الكثيرين. وكان بإمكانها أن تصبح منارة حضارية للمنطقة بأسرها؛ فاليهود شعب كبير، معذب، شاهد على التاريخ. وقد أنجب عباقرة كبارا ليس أقلهم سبينوزا أو ماركس أو فرويد أو آينشتاين أو عشرات الآخرين.. ولا ننسى الفيلسوف اليهودي العربي موسى بن ميمون المعاصر لابن رشد. وقد كتب رائعته الفلسفية «دلالة الحائرين» باللغة العربية. ولكن من يحترمها الآن من دول أفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية؟ بل وحتى بعض الدول الأوروبية أصبحت تتذمر وتطرح أسئلة. نقول ذلك رغم كل الإنجازات التي حققتها إسرائيل في السنوات الثلاثين الأخيرة؛ فجامعاتها أصبحت من أفضل الجامعات. وقل الأمر ذاته عن نظامها الطبي ومشافيها التي تحسدها عليها دول كثيرة. وقل الأمر ذاته عن مراكز بحوثها العلمية الصناعية وقطاعها التكنولوجي الذي ينافس أكثر دول العالم تقدما. كل هذا صحيح وربما أكثر منه. ولكن إسرائيل فقدت روحها باحتلالها لشعب آخر. ومن يفقد روحه فعلى الدنيا السلام..!
ونضيف: لقد فقدت إسرائيل رصيدها الأخلاقي والإنساني بسبب أطفال غزة المضرجة أجسادهم البريئة الطاهرة بالدماء، هذا من جهة. وأما من جهة أخرى فكل خبراء العالم يقولون لك بأن إسرائيل إذا ما استمرت على سياستها الحالية فسوف توقع على صك موتها بيدها كدولة يهودية في المنطقة. إذا لم تقبل بنشوء دولة فلسطينية إلى جانبها فلن يكون لها الأمان ولا الاطمئنان. هل نعلم بأن عدد العرب من البحر إلى النهر أصبح يعادل عدد اليهود؟ فما بالك بالمستقبل والقنبلة الديموغرافية الفلسطينية؟ سوف يُغمر اليهود في المنطقة غمرا ولن تعود هناك دولة يهودية أصلا. وبالتالي فمن مصلحتهم أن تقوم دولة فلسطينية لكي يحافظوا على يهودية دولتهم على الأقل.
وأخيرا يرى الباحثون أن المحافظة على المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية مكلف ليس فقط أخلاقيا وإنسانيا وإنما ماليا أيضا؛ فالغنى المقبل والواعد لإسرائيل لا يكمن في «التلال الجرداء ليهوذا والسامرة»، أي الضفة الغربية، وإنما في المياه الإقليمية المفعمة بالغاز والبترول والممتدة حتى جزيرة قبرص تقريبا!