دخل «الإخوان المسلمون» في مصر في الموجة الرابعة من «زحوفهم» لتخريب الأزهر. كانت الموجة الأولى عشية سقوط حسني مبارك، باعتبار أن شيخ الأزهر ما كان موقفه واضحا من ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، وقد تأخر كثيرا في تأييدها. وهذا كأن «الإخوان» أنفسهم كانوا هم صناع الثورة أو أول المتحمسين لها! وعلى أي حال فقد كنا نرى طلابا متأخونين من حول مشيخة الأزهر ينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يترك الشيخ الدار. وجاءت الموجة الثانية خلال الصراع على الدستور. وقد كانوا وقتها يعانون من التنافس مع السلفيين الذين كانوا يعتبرون مشيخة الأزهر «قليلة» الحماس لبرنامجهم في أسلمة الدولة والمجتمع. وهكذا فقد اندفعوا هم أيضا لشخصنة الصراع لأن الشيخ يوسف القرضاوي (الذي عاد حماسه لحكم الإخوان للاشتداد) رأى أن الأزهر سيظل ضد «الإخوان» سواء أكانوا في السلطة أم في المعارضة! إنما بسبب المزايدة بينهم وبين السلفيين على من هو الأكثر حرصا على الإسلام وتطبيق الشريعة، جرى تثبيت استقلالية الأزهر! وجاءت الموجة الثالثة (وكانت أكثر حدة من الأوليين) بعد وصول مرسي للرئاسة، والاشتباك بين «إخوان مصر» ودول الخليج لسببين: إنشاء تنظيمات إخوانية في دول الخليج، ومحاولات «الإخوان» المستميتة لتغيير سياسات مصر الاستراتيجية فيما يتعلق بإيران وتركيا والقضية الفلسطينية. وما وافق مصريون كثيرون بينهم شيخ الأزهر على هذه التوجهات للضياع والتضييع. ولذلك وعندما كان الشيخ في جولة خليجية، ثارت ثائرة طلاب «الإخوان» بالأزهر، وكذلك سياسيوهم. والحجة في الثورة أن ألفا وثلاثمائة طالب (من الإخوان فقط!) أصيبوا بتسمم دون غيرهم، نتيجة الأكل في مطاعم جامعة الأزهر! وقد رأينا في التلفزيون مرسي يزورهم في المستشفيات، كما رأينا آخرين منهم يتظاهرون حول مشيخة الأزهر كالعادة مطالبين بعزل مدير التغذية ثم رئيس الجامعة، ثم شيخ الأزهر نفسه، وكل ذلك خلال 24 ساعة! وقطع الشيخ زيارته وعاد وأحال مدير التغذية إلى التحقيق، وساءل رئيس الجامعة. وتبين خلال ساعات أن الواقعة مصنوعة، فكررها «الإخوان» بادعاء التسمم للمرة الثانية، والدعوة عند المشيخة لاستقالة شيخ الأزهر، أو إقالته من جانب الرئيس (وليس من حق الرئيس ذلك بحسب الدستور الجديد)! وفي الموجة الثالثة هذه تصاعدت أصوات متضامنة مع الأزهر بما في ذلك داخل الأوساط السلفية. وحدثت قطيعة بين الشيخ والأوساط الإخوانية على أثر هذه المكيدة، ولأن هيئة كبار العلماء في مشيخة الأزهر صوتت بأكثريتها الساحقة لغير مرشح «الإخوان» لإفتاء مصر!
وجاءت الموجة الرابعة الحالية بعد عزل الجيش لمرسي على أثر التظاهرات الشعبية الهائلة يوم 30 يونيو (حزيران) 2013. وقد حضر مناسبة التنحية وخارطة الطريق شيخ الأزهر وبابا الأقباط ومفتي الدعوة السلفية بالإضافة للأطراف السياسية. وما أظهر الشيخ حماسا لاعتصامات «الإخوان» وتظاهراتهم الصاخبة وبخاصة بعد أن بدأ سقوط القتلى، والدعاوى المتناقضة من الطرفين. وما نسي «الإخوان» للشيخ هذا الموقف، فبدأت الموجة الرابعة التي تهدف فيما يبدو إلى تخريب جامعة الأزهر وتحطيم «مرجعية الأزهر» إن أمكن. لقد استخدم «الإخوان» في الأسابيع الأخيرة تنظيماتهم الطلابية بالجامعات. وقد استخدم بعض هؤلاء العنف في تعطيل الدروس أو تدمير المرافق مثلما حدث في جامعتي الإسكندرية والمنصورة. بيد أن طلاب «الإخوان» بالأزهر والذين يتظاهرون منذ ثلاثة أسابيع، يستخدمون العنف كل يوم، ويقصدون إلى التعطيل والتدمير وليس للاستعراض وإظهار القوة وحسب. وهناك من يقول إن هذا النزوع العنيف سببه المباشر منع حصول امتحانات منتصف العام، لأنهم لن ينجحوا فيها، إذ لم يحضروا درسا ولا اهتموا بمستقبل تعليمي بعد تنحية مرسي. بيد أن أكثر المراقبين يرون أن حقد «الإخوان» على الأزهر يتجاوز ذلك بدليل الشعارات المرفوعة عن «إسلامنا» و«إسلامهم»، وعن خيانة الدين، وعن ارتباط الشرعية بالشريعة و«الإخوان»، وليس بفقهاء السلطان!
ما نظر «الإخوان» منذ نشأتهم في أواخر العشرينات من القرن الماضي للأزهر بعين الرضا. فقد كان دافع حسن البنا لإنشاء جماعة الإخوان المسلمين، أن «الشرعية» قد انحسرت عن الدولة والمجتمع، وأن «الشرعية» هذه تركزت في تنظيمه، الذي يكون عليه أن يعمل على نشرها في المجتمع من جديد، وأن يعمل من جهة ثانية على الوصول إلى السلطة لفرض تطبيق الشريعة استعادة للمشروعية في دولة إسلامية خالدة. أما الأزهر، فما كان يرى أن هناك مشكلة في شرعية المجتمع أو الدولة. وقد انخرط علماؤه في ثورة عام 1919، واعتبروا أن الحركة الوطنية المصرية هي الخلف الشرعي لدولة الخلافة. وعندما تحمس بعض شيوخ الأزهر لاستخلاف الملك فؤاد، وجدوا أن حسن البنا وإحيائييه الجدد ينافسونهم فانكفأوا. وصحيح أنهم ما كانوا مسرورين أن واحدا منهم هو الشيخ علي عبد الرازق اعتبر الخلافة نظاما قروسطيا منقضيا. بيد أن مما له دلالته أن الثلاثة الأوائل الذين ردوا على عبد الرازق ومن قبل على إلغائية مصطفى كمال ما كانوا من المصريين ولا من الأزهريين. فقد رد على إلغاء الخلافة الشامي (اللبناني) محمد رشيد رضا، والتونسيان محمد الخضر حسين، ومحمد الطاهر بن عاشور. ومعروف أن بلدان هؤلاء كانت تقع تحت الانتداب الفرنسي، وما كانت معالم «الحركة الوطنية» عندهم ظاهرة لتجديد الشرعية من طريق النضال من أجل الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، كما كان عليه الحال في مصر.
ولنعد إلى البنا والأزهر. فقد فهم الأزهريون أن إصلاحيي محمد عبده المتوجهين إلى السلفية، وإحيائيي حسن البنا المتربصين في «التنظيم» الجديد، إنما يريدون منافستهم على «المرجعية». بيد أن السلفيين أراحوا الأزهر بالاستقرار في جمعياتهم، والتطلع إلى دولة الملك عبد العزيز الطالعة بالجزيرة. أما «الإخوان» فقد كان مشروعهم أخطر مما ظنه الأزهريون. إذ ما كانوا يريدون اصطناع مرجعية دينية في مواجهة الأزهر أو الاستيلاء على الأزهر وحسب. بل كان همهم تحويل التنظيم إلى مرجعية عليا للإسلام، لكي يتمكنوا من خلال ذلك من الاستيلاء على الدولة المصرية باسم الدين، لإعادتها «دولة إسلامية ».
كانت هناك مهادنة بين الأزهر و«الإخوان» ناجمة عن اختلاف الهموم والأساليب، لكنها ما استمرت طويلا. فقد كان على الأزهر أن يتخذ موقفا من اتجاه «الإخوان» لاستعمال العنف ضد الدولة الوطنية المصرية أيام الملك ثم في بداية عهد الجمهورية. وفيما وراء العنف كان على الأزهر أن يحسم أمره فيما يتعلق بشرعية المجتمع والدولة، وهل يتوافق أو يتحالف مع «الإخوان» على إقامة دولة دينية أو إسلامية، يكون «تطبيق الشريعة» فيها شرطا لاستعادة المشروعية؟! وما وافق الأزهريون الكبار على استخدام العنف المفرط ضد «الإخوان»، لكنهم حسموا أمرهم لصالح الدولة المدنية منذ الستينات من القرن الماضي، واستعادوا التراث الذي تركه محمد عبده، وإلى الشيخ أحمد الطيب بعد ثورة 25 يناير ووثيقته حول «مستقبل نظام الحكم في مصر».
كيف يمكن لجماعة الإخوان في برنامج «النهضة» الذي طرحه مرشحها للرئاسة، أن تقول بمرجعية الشريعة، وإنها هي الساعية لتطبيقها في النظام السياسي، وتفسير هذه «المرجعية» آيل للأزهر الذي لا يقول بدولة «الإخوان»، ولا بتفسيراتهم للشريعة وعلائق الدين بالدولة؟! ولذلك ظهر لديهم توجهان عشية انتخاب مرسي للرئاسة: مواجهة الأزهر بسبب تصارع المرجعيتين، أو استيعابه والاستيلاء عليه بالتدريج، لأن بين علمائه وطلابه جمهرة منهم. وقد تبين لهم بعد وقت قصير أن الاستيعاب غير ممكن، لاختلاف الأهداف، واختلاف الوظائف والمهمات. ففكرة «الإخوان» كلها جديدة على الأزهر، ولا يمكنه قبولها: تحويل الدين إلى حزب سياسي، والاستيلاء على الدولة عن طريقه، وإلغاء كل الآخرين!
لقد اختلفت كثرة من الشعب المصري مع «الإخوان» وطرائقهم في الحكم وسياساتهم الداخلية والخارجية. وانحاز الأزهر إلى تلك الكثرة، كما انحاز إلى الدولة المصرية (العميقة) كما كان شأنه دائما. وهكذا فقد «الإخوان» صوابهم وصبرهم تجاه الأزهر، وقرروا تخريبه جامعة وجامعا، وهذه المرة لأنه انحاز ضد «الشرعية والشريعة» المتمثلة بهم.
في أيام نابليون اجتاحت خيوله الأزهر لتدميره. لكن الأزهر بقي وذهب نابليون. إنما الطريف الآن محاولة تدميره من جانب «الإخوان» باسم الإسلام. سيبقى الأزهر منارة للإسلام الذي نعرفه، أما «الإخوان» «فلهم إسلامهم، ولنا إسلامنا». ولا حول ولا قوة إلا بالله.
TT
لماذا يريد «الإخوان» تخريب الأزهر؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة