في أحد المقاهي، الذي يبعد مباني قليلة عن المقر السابق لمبنى الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) القديمة في ساحة لوبيانكا، يحاول الصحافي الاستقصائي أندريه سولداتوف تفسير العالم الغامض للاستخبارات الروسية، التي أصبحت محط الاهتمام، والتحقيقات الجنائية الأميركية بشأن محاولات القرصنة الإلكترونية التي واكبت الحملة الانتخابية الرئاسية في عام 2016.
يقول سولداتوف إن الأحداث الكبرى في روسيا، اليوم، ليست وليدة الاستراتيجيات واسعة النطاق في كثير من الأحيان، بل إنها مجرد «تحركات تكتيكية» تعكس في جملتها المصالح الشخصية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين و«إدارته الرئاسية».
كما يعتقد السيد سولداتوف أن «عامل» بوتين من العوامل الحيوية والحاسمة في فهم المسائل ذات الصلة بقضية القرصنة الإلكترونية والتحقيقات الحالية بشأنها. يحمل بوتين كراهية شخصية تجاه السيدة هيلاري كلينتون، وظلت أجهزة الاستخبارات الروسية تجمع المعلومات حولها منذ أواخر صيف عام 2015. ولكن ما نقل العملية الروسية إلى مستوى التنفيذ الفعلي كان نشر «وثائق بنما» الشهيرة في أبريل (نيسان) من عام 2016، التي كشفت عن الحسابات المصرفية السرية لبعض من أقرب أصدقاء الرئيس الروسي وأوثق مساعديه.
«لقد كان هجوماً شخصياً»، كما يقول الصحافي سولداتوف، الذي أردف: «لا يمكنك الكتابة حول عائلة الرئيس بوتين أو أصدقائه المقربين». وهو يعتقد أن الزعيم الروسي أراد أن يفعل شيئاً حيال هذا الأمر، «أن يلقن أحدهم درساً لا ينساه».
ولقد وصم بوتين «وثائق بنما» بأنها مجرد جهود متعمدة من قبل الولايات المتحدة بهدف إحراجه عالمياً. ولقد قال في أبريل من عام 2016: «يقف المسؤولون والوكالات الحكومية في الولايات المتحدة وراء كل هذا. لقد اعتادوا احتكار الهيمنة على الساحة الدولية ولا يرغبون في إفساح المجال لغيرهم أبداً. إن المحاولات الرامية لإضعافنا ناشئة من الداخل، وهي محاولات إخضاعنا وإجبارنا على التزام خطهم وسياساتهم».
ولقد رفض مارك تونر المتحدث باسم الخارجية الأميركية في ذلك الوقت أن تكون الولايات المتحدة «ضالعة بأية صورة من الصور في التسريبات الفعلية لتلك الوثائق». غير أنه عاد وأكد أن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية كانت قد ساندت في مشروع الجريمة المنظمة والإبلاغ عن الفساد، وهي إحدى المنظمات الإعلامية المشاركة في البحث في «وثائق بنما». أما بالنسبة إلى الجانب الروسي، كان ذلك يعتبر دليلاً كافياً على ضلوع الولايات المتحدة في الأمر.
وبالنسبة للسيد بوتين، الضابط الأسبق في الاستخبارات الروسية، فإنه ليس من شيء في مجال المعلومات يمكنه وصفه بالعارض. وفي جلسة ساخنة يوم الجمعة الماضي خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في مدينة سان بطرسبرغ الروسية، اعترض السيد بوتين على ميغين كيلي مراسلة شبكة «إن بي سي» الأميركية إذ قال: «أما بالنسبة للمصادر المستقلة، فليس هناك شيء مستقل في هذا العالم». وعندما حاولت الضغط على نقطة «البصمات الرقمية» الروسية في القرصنة الإلكترونية على اللجنة الديمقراطية الوطنية الأميركية، انفجر فيها بوتين قائلاً: «أية بصمات؟ أبصمات الحوافر؟ أم بصمات القرون؟».
وفي اليوم السابق، قال السيد بوتين إن القراصنة الروس «الخواص» من أصحاب العقيدة الوطنية الخالصة قد يكونون ضالعين في تلك العملية. ولكن في يوم الجمعة قبل الماضية، كان في موقف رفض وإنكار كامل للأمر، مشيراً إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يمكن أن تكون قد فبركت الأمر برمته: «يمكن بسهولة شديدة تلفيق عناوين بروتوكولات الإنترنت... وهناك خبراء في تكنولوجيا المعلومات يقومون بذلك في مختلف أنحاء العالم اليوم، وبإمكانهم ترتيب أي شيء مطلوب منهم وإلصاق اللوم بمن يشاءون».
يقول السيد سولداتوف إن الاستخبارات الروسية تشرف على شبكة خاصة من قراصنة الإنترنت، تماماً كما تستخدم وكالتا الاستخبارات المركزية والأمن القومي الأميركيتان شركات المقاولات التقنية الخاصة في تطوير الأسلحة الإلكترونية الهجومية، واستغلال أيام هجوم البرمجيات الخبيثة عبر شبكة الإنترنت. وعلى الرغم من امتلاك أجهزة الأمن والاستخبارات الروسية القدرات والإمكانات الإلكترونية، فإن أغلب الهجمات الفعلية تأتي عبر قنوات أخرى، على نحو ما كتب في مقالة له نشرت العام الماضي على موقعه الشخصي (Agentura.ru)، ولقد استشهد في ذلك بمثال لشركة تكنولوجية روسية يزعم أنها طولبت بالمساعدة في تنظيم هجمات «حساسة» للحرمان من وإيقاف خدمات الإنترنت.
وسوف يستغرق الكشف عن حقيقة ما جرى فعلياً في حملة عام 2016 الانتخابية الرئاسية الأميركية شهوراً حتى ينجلي تماماً، كما أن هناك سحابة قاتمة من التضليل والمعلومات الزائفة، التي يغذيها كل من الرئيس الروسي، والرئيس الأميركي، فضلاً عن التغطيات الإعلامية شديدة النهم. ويلاحظ السيد سولداتوف، على سبيل المثال، أن الملف الشهير الذي عكف الجاسوس البريطاني السابق كريستوفر ستيل على جمعه يتضمن تفاصيل «يصعب التحقق منها» وبعضاً من «الارتباك الواضح» بشأن جملة من الحقائق.
غير أن سولداتوف كان قد كتب في يناير (كانون الثاني) مقالاً لصحيفة «غارديان» البريطانية بأنه «انعكاس جيد لكيفية إدارة الأمور داخل أروقة الكرملين - والفوضى البادية عن مستويات صناعة القرار السياسي والاستعانة المفرطة بالمصادر الخارجية في تنفيذ العمليات الحساسة».
وبالنسبة للعيون الروسية، فإن جميع المعلومات هي من قبيل التضليل المحتمل، والأسرار الحقيقية لا بد من إخفائها عن أعين الجماهير. ومع الهجوم الذي شنه الرئيس بوتين على السيدة كيلي مؤخراً، إذ قال: «النسخة غير المصنفة هي ليست نسخة بالأساس». ويعتبر الجانب الروسي مزاعم الاستقلال التي تطلقها وسائل الإعلام الأميركية بأنها زائفة، كما أنهم يعتبرون منافذهم الإعلامية والدعائية الخاصة بأنها تتنافس على قدم المساواة مع الشركات الإعلامية العالمية.
فشبكة «سبوتنيك» الإعلامية الروسية، على سبيل المثال، لديها جناحها الخاص في المنتدى الاقتصادي في سان بطرسبرغ. ولقد قال مدير الاستخبارات الوطنية الروسية في 6 يناير واصفاً هذه الشبكة في تقرير خاص: «إنها آلة الدعاية الحكومية التي تديرها الدولة»، غير أن الكتيبات الخاصة بالشبكة تصفها بأنها مجموعة إعلامية تعمل على نشر 2000 مادة إخبارية يومية باللغات الروسية والعربية والصينية والإسبانية والإنجليزية.
ومع مضي التحقيقات الأميركية في قضية القرصنة الإلكترونية الروسية قدماً، لا ينبغي لنا أن نفقد البوصلة أو الاتجاه: روسيا ليست دولة شيطانية، ووجودها العالمي ليس كلياً وشاملاً. بل إنها دولة متطورة ومحدثة بشكل متزايد. وهي في الوقت ذاته الدولة الوحيدة تقريباً التي يقودها ضابط أسبق بأجهزة الاستخبارات، الذي يُطِلّ على العالم من خلال عدسات خاصة للغاية.
* خدمة «واشنطن بوست»
8:2 دقيقه
TT
روسيا والولايات المتحدة والقرصنة الإلكترونية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة