مرّت ثلاث سنوات عجاف، ما إن يجفّ الدمع فيها لفراق حبيبٍ حتى ينسكب ثانيةً لغياب آخر. خمس وفيات في تلك المدة لإخوة بَرَرة، كانوا الأصدقاء والرفاق منذ أن وعيتُ الدنيا، رثيتُ أربعةً منهم، وها أنا ذا أرثي الخامس، حابساً دمعتي حتى أنتهي من تسطير ما في خاطري.
أخي سعد - رحمه الله - وُلد مثلي في مكة المكرمة، وبرز في المدرسة النموذجية للبنين والبنات بالطائف. هوى الأدب، ولا أنسى - وأنا في العاشرة، وهو في الثالثة عشرة من العمر - نقاشه مع أحد نظرائه، وكنتُ شغوفاً بسماع حديثه وهو يشرح النقد الذي طلبه منه مدرّس الأدب عن كتابٍ للمرحوم عباس العقاد، وبعد أخذٍ وردٍّ مع الزميل سأل رحمه الله: «ما يكفي أقول إن العقاد معقّد؟»، فانفجرنا ضحكاً. كان هكذا، يرمي كلمتين تغيّر مجرى الحديث، وتخرج المستمع إليه من جوٍّ إلى آخر.
وبعد أن انتقل إلى الدراسة في الولايات المتحدة الأميركية، حيث لعب أربعة من إخوتنا في فريق كرة القدم، لم يتردّد في أن يحمل سطل الماء لسقيا اللاعبين في الفريق ليساهم ولو بذلك المجهود؛ لأنه لم يكن يُجيد اللعب بالكرة، وإن برع في رياضة المبارزة بالسيف. وفي سنوات الدراسة الثانوية، تأصّلت فيه روح المرح والمداعبة؛ فكان هو المسؤول عن أشرطة التسجيل التي يرسلها الأهل مُسجّلا عليها الأغاني الدارجة في تلك الأيام. وفي عطلة الصيف كان مثل الشمعة التي يلتفّ حولها الفراش، فيلتمّ حوله الأقران من أقرباء وأصدقاء ليلا للسمر والمزاح وإنشاد السامري، حيث نَمَتْ موهبة أخينا خالد في نظم الشعر، وكان هو - رحمه الله - الناقد الأول لأخيه الذي يُسمعه الأبيات قبل أي شخصٍ آخر. وفي التنزّه عصراً في شعاب ووديان الطائف، لم يمضِ يوم إلا ولسعد مزحة مع صديق كان قد خطّط لها بإتقانٍ، ونعود في المساء لنتشارك الضحك على المقلب الذي وقع ذلك اليوم.
ثم التحق - رحمه الله - بجامعة كامبردج العريقة، وتخرّج فيها بشهادة القانون الدولي؛ ليعود ويبدأ العمل مستشاراً قانونياً في مؤسسة بترومين، وأسهم مع زملائه في تلك الأيام في التأسيس لتطوير السياسات النفطية الوطنية؛ من وضع الأنظمة، والاشتراك في المؤتمرات، وتكوين الكوادر البشرية في المجال ذاته. ثم أُشرك في عضوية صندوق التنمية في بداية تكوينه إلى أن استقال من العمل الحكومي، لكن جاذبية مجلسه الليلي استمرّت؛ فأينما حلّ - رحمه الله - كانت داره ملتقى ليلياً للزوّار والسمّار.
أصابه مرض القلب في ريعان شبابه؛ فانكفأ إلى داره، وضعف وهج ضوئه، وبقي سنواتٍ يستنهض قلبه المصاب إلى أن استكان قلبه لأمر الله، وكفّ عن النبض. لقد رحل عنا أنيس آل فيصل، رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته.
8:2 دقيقه
TT
ورحل عنا أنيس آل فيصل
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة