طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

هل كان الجمهور قاسياً؟

قدم ملحن كبير قصيدة لم تحقق أي نجاح مع الجمهور، عندما سألوه عن إحساسه لأول مرة بمرارة تجرع رشفات من كأس الفشل؟ أجابهم الذي أخفق ليس أنا، الجمهور هو الذي لم يعلُ إلى مستوى اللحن، لقد أفسدوا ذوقه، فلم يستسغ جمال الصياغة اللحنية، فهو لا يعرف سوى الرقص على إيقاع «واحدة ونص».
قبل أيام قلائل جاء بالصدفة مقعدي بجوار واحد من أهم منتجي وموزعي السينما المصرية، وذلك في افتتاح مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، فقال لي، الجمهور صار قاسياً جداً وأخذ يذكر عدداً من الأفلام عُرضت في الأسابيع الأخيرة وحققت فشلاً ذريعاً، بل ومنذ الحفلات الأولى والناس لا تُقبل عليها، وهو لا يجد في تلك الأفلام عيباً سوى قسوة الجمهور. قلت للمنتج هذا: الجمهور تحديداً هو الذي مثلاً اختار قطع تذاكر لأفلام متعددة وأنعش بها جيوب السينمائيين وأنت واحد منهم، وأضفت: مثلاً فيلم «هيبتا» لا يوجد به أسماء نجوم شباك، ورغم ذلك عندما عُرض العام الماضي حقق أرقاماً قياسية. وقلت له: شاهدت الأفلام، وهي من المؤكد كأشرطة تستحق الهزيمة، نعم هناك أعمال فنية عبر التاريخ، تنطوي على لغة سينمائية لا يُقبل عليها الجمهور في حينها، ولكن مع الزمن يبدأ في استيعابها، مثلما قدم قبل 60 عاماً المخرج يوسف شاهين فيلمه الأثير «باب الحديد» وفي مرحلة لاحقة صلاح أبو سيف «بين السماء والأرض»، ثم حسين كمال «شيء من الخوف»، فقاطع الجمهور هذه الأفلام، ولكن مع مرور السنوات نجحت عبر عرضها في الفضائيات وصارت تصنف كأفلام جماهيرية، تلك كانت وستظل هي الأفلام النادرة في التاريخ، لأن الأصل هو أن ينجح الفيلم في عرضه الأول مع الناس. عندما تتحدث الآن عن عشرة أفلام بينها سبعة كان مصيرها الفشل الذريع، فهذا الموقف لا يمكن اعتباره مجرد صدفة، الجمهور قرر توجيه عقاب جماعي لها، يتحدثون أحياناً عن انخفاض درجات الحرارة كعامل طارد للجمهور، الذي فضل أن يمكث بالبيت، وإجابتي أن الفيلم القوي والمشبع فنياً، من الممكن أن يحمل الدفء للجمهور.
سألت المنتج هل تتوقع أن تتوقف الصناعة السينمائية الآن بسبب سقوط هذا العدد الضخم دفعة واحدة؟ أجابني أنه عرض له الموسم الماضي فيلماً ولم يحقق أي إيرادات وفي الوقت نفسه لم يحقق أي خسائر، بل لديه هامش من الربح، بعد أن باعه للفضائيات، وهو يتصور أن كل المنتجين الذين خذلهم شباك التذاكر سيكتشفون أن الفضائيات تكمن فيها تلك المعادلة المفقودة وسوف يواصلون الإنتاج.
الفن يعلمنا أكبر درس في ممارسة الديمقراطية - فلا تستطيع أن تزور نتيجة، بينما في دنيا السياسة، من الممكن أن تتدخل الأجهزة وتغير في نتائج الفرز، في علاقة العمل الفني بالجمهور هناك تصويت دائم من خلال شباك التذاكر، يتم بعده اختيار الأفضل بدون ضغط من احد، إرادة الناس لا يمكن تغييبها أو كبتها. لا أوافق الموسيقار الكبير في ما ذهب إليه بأن الناس هي التي فشلت في استيعاب اللحن، الصحيح أن نقول بأن اللحن فشل في الوصول للناس، الجمهور لا يمكن وصفه بالقسوة، ولكن بعض الأعمال الفنية كانت غير محتملة على الجمهور، فبادلها القسوة بقسوة والبادي أظلم!