طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

الحقيقة بناءً على طلب الجماهير!

هل الناس تريد أن تسمع وترى وتدرك الحقيقة كاملة، أم أنهم يريدون فقط تثبيت الصورة الذهنية التي تراكمت عبر السنوات؟... في العادة يميل أغلبنا إلى اختيار وجه واحد للصورة يلقى صدى إيجابياً داخله؛ لأنه يطمئن إليه؟
سواء أحب أم كره، فهو ينتظر من صانع العمل الفني لو كنا بصدد فيلم أو مسرحية يتناول حياة شخصية عامة سياسية أم فنية، أن يؤكد له ما سبق أن أقتنع أو في الحد الأدنى ارتاح إليه، مثلاً من أحب عبد الناصر أو السادات فهو يرى في كل منهما صورة للزعيم القائد صاحب الرؤية الثاقبة العميقة المستقبلية، أما من يميل للعكس، فسيصدق فقط كل الأعمال الفنية التي تنزع عنهما كل ذلك.
عُرض مؤخراً فيلم «داليدا» المطربة العالمية المصرية الأصل بنت الحي الشعبي «شبرا» الذي كان يضرب به المثل لامتزاج المسلم والقبطي، الفيلم يتناول قصة حياتها وضعفها البشري الذي أدى بها إلى الانتحار أكثر من مرة، حتى جاءت النهاية قبل 30 عاما عندما تركت هذه الرسالة الختامية «الحياة لا تحتمل سامحوني»، قدمت المخرجة ليزا أزوليوس حياة داليدا أقرب إلى بورتريه يمتزج فيه الأبيض والأسود، الظلال والألوان، الفرح والألم، شاهدنا الكثير من تلك الأعمال الفنية، مثل فيلم «الحياة الوردية» عن حياة المطربة الأسطورة أديثبياف، وأدت دورها قبل عشر سنوات ماريون كوتيار، وحصلت على الكثير من الجوائز، مثل الأوسكار وسيزار والكرة الذهبية. الدافع الذي يحرك صانع الفيلم هو الوصول للحقيقة.
لو قارنت ذلك، بما نقدمه في الدراما العربية، ستكتشف أننا نسعى لتفصيل العمل الفني على مقاس الناس؛ لأن الجمهور يريدها كذلك، فهو يميل أكثر إلى الرؤية التي تمنحه وجهاً واحداً فقط للصورة، إما أبيض أو أسود، مثلاً كمال الشناوي أراد تقديم حياة أنور وجدي وليلى مراد في فيلم من إنتاجه «طريق الدموع»، وأدت صباح دور ليلى مراد بعد اعتذارها، وأدى الشناوي دور أنور وجدي بينما لعبت ليلى فوزي دورها الحقيقي في الحياة، حيث كانت هي حب أنور وجدي الأول قبل ليلى مراد وتزوجها بعد طلاقه منها، الناس لم تعترف أبداً بتلك الحقيقة؛ لأن الراسخ هو أن ليلى مراد حبه الأول والأخير، وحقق الفيلم قبل نحو55 عاماً فشلاً ذريعاً، بل إنه وحتى الآن لا ترحب الفضائيات كثيراً بعرضه، وتكبد بسببه كمال الشناوي- كما قال لي- خسائر فادحة، توقع أن يحقق صفقة مالية، فجاءت بمثابة صفعة تجارية.
كثير من الفنانين عندما يشاهدون أعمالاً فنية تتناول حياة من عاصروهم، تصدمهم لما فيها من أحدث غير حقيقية، وهذا ما دفع مثلا هند رستم قبل رحيلها إلى أن توصي ابنتها الوحيدة بسنت بألا تسمح لأحد أن يٌقدم حياتها، وهو أيضاً ما أوصت به الفنانة القديرة مديحة يسري، مد الله في عمرها، بعد أن رأت مسلسلات مثل «العندليب» و«السندريلا» و«الشحرورة».
أشهر دراما سيرة ذاتية، حققت نجاحاً جماهيرياً تلك التي تناولت مسيرة كوكب الشرق في مسلسل «أم كلثوم»، المسلسل قدم الشخصية كما هي في الذاكرة الجماعية ولم يتطرق لأي سلبيات، ربما كانت ستصدم الناس، وبالطبع لم يقل كل الحقيقة.
وكأننا في مقهى بلدي نطلب من الجرسون أن يُحضر لنا «واحد حقيقة وصلحه»، وتلك كانت ولا تزال هي أُم المشكلات في الفن والحياة!!